2012/07/04
دار الخليج – فنون
أحاسيس مختلفة ومتناقضة يعيشها الوسط الفني، وإن كان ليس بمعزل عما يعيشه الشارع المصري، غير أن الوسط الفني تحديداً يعيش حالة من الغليان، ليس فقط بسبب الحكم الذي صدر مؤخراً بحبس الفنان عادل إمام ثلاثة أشهر مع الشغل، وقام محاموه بالاستئناف، هذا عدا حكم البراءة الذي حصل عليه، ولكن لإحساس عام بأن الفن المصري والفنانين المصريين يشعرون بالخطر، مهددين بردة قد تعيدهم قرناً كاملاً إلى الخلف، وقت كان يطلق على الفنان لقب “المشخصاتي”، والنظر له نظرة “احتقار وازدراء”، لدرجة أنه كان يعد من الفئات المتدنية في المجتمع، حتى إنه لم تكن شهادته تقبل في المحاكم . إلى أن ظهر دور الفنان الحقيقي خلال ثورة 1919 . وفي التحقيق التالي نستعرض مسيرة الفنانين مع السلطة والسياسة، وما مرت به من شد وجذب ونفور .
البداية كانت مع ما قدمه خالد الذكر سيد درويش من أعمال وطنية ألهبت حماس الشعب المصري، إضافة إلى تحفيزه لهم في الثورة وتقديمه النشيد الوطني المصري “بلادي بلادي”، والذي لايزال ينشد إلى الآن، حتى إنه استحق لقب “فنان الشعب” . كذلك ما قام به الفنانون العمالقة نجيب الريحاني، جورج أبيض، يوسف وهبي، علي الكسار، عزيز عيد، وغيرهم من أجل مؤازرة الشعب المصري سواء في ثورته عام ،1919 أو حتى في جهاده ضد المستعمر الإنجليزي، حتى جاءت ثورة يوليو ،1952 وفتحت ذراعيها للفن والفنانين، ففتح لها الفنانون أذرعهم وراحوا يقفون خلف الثورة، ممثلين ومطربين وشعراء وملحنين، يوسف وهبي، أنور وجدي، عماد حمدي، إسماعيل ياسين، فريد شوقي، فقدموا الكثير من الأعمال التي تشرح أهداف الثورة للشعب المصري .
استطاع على سبيل المثال العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ من خلال أغنياته أن يؤرخ للثورة، منذ اللحظة الأولى لقيامها، من خلال نخبة وطنية من كبار الشعراء والملحنين الذين استطاعوا مع عبدالحليم أن يضعوا أعظم خريطة للغناء الوطني منذ قيام ثورة يوليو ،1952 والتأريخ للثورة وإنجازاتها والأحداث التي مرت بها، وكذلك الخطوات الإصلاحية التي قام بها زعيم الثورة جمال عبد الناصر، وإظهار ما حققه لمصر وللوطن العربي من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بداية من قراره الشجاع بتأميم قناة السويس الذي كان نقطة تحول في مسيرة الاقتصاد المصري بما تدره القناة من عائد اقتصادي كبير انعكست آثاره الاقتصادية على الشعب المصري، ثم قراره الآخر الشجاع أيضاً ببناء السد العالي وغيرها من القرارات الأخرى التي وصلت للشعب المصري والعربي عبر أغنيات عبد الحليم حافظ، وغيره من المطربين والمطربات مثل فايدة كامل وشادية وفايزة أحمد، ومحمد رشدي ومحمد قنديل وغيرهم، ومعهم عدد كبير من كبار الشعراء والملحنين بداية من موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، مروراً بمحمد الموجي وبليغ حمدي، وكمال الطويل، وأحمد شفيق كامل، وحسين السيد ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي، وتنقل الإذاعة المصرية أعمالهم على الهواء ويحرص على تقديمها الإذاعي الملهم الراحل جلال معوض صاحب الصوت الرائع، حيث استطاعوا جميعاً مع عبدالحليم أن يضعوا أعظم خريطة للغناء الوطني، وقبلهم وبعدهم كوكب الشرق أم كلثوم، التي كان لها عظيم الأثر، سواء في سنوات الثورة الأولى، أو جهودها خلال العدوان الثلاثي عام ،1956 ثم نكسة يونيو ،1967 وما قامت به للمجهود الحربي، وقطار الرحمة لجمع التبرعات، ما جعل مجلس قيادة الثورة، والزعيم جمال عبدالناصر يعدون هؤلاء الفنانين خطاً أحمر ممنوعاً الاقتراب منهم، باعتبارهم ثروة قومية ليس لمصر فقط، بل للوطن العربي كله، وربما هذا ما تؤكده الرواية التي رفض الكاتب محفوظ عبدالرحمن ذكرها خلال مسلسل “أم كلثوم”، ليس خجلاً من الرواية، ولكن للحفاظ على شكل أم كلثوم وقامتها .
فقد أكد محفوظ عبدالرحمن أنه عثر خلال بحثه أثناء كتابة مسلسل “أم كلثوم” على واقعة شهيرة، عضدها بعض الشهود المعاصرين لها، وهي أن د . الحفناوي زوج السيدة أم كلثوم اختلف معها في يوم، فقام كزوج بضربها ضرباً مبرحاً، فما كان من أم كلثوم سوى الاستنجاد بالزعيم جمال عبدالناصر هاتفياً، فهرول الزعيم إليها وهو بملابس النوم بسبب صراخ وبكاء أم كلثوم في الهاتف، وما أن وصل ووجد الحالة التي عليها أم كلثوم، حتى راح يسأل د . الحفناوي عن سبب ذلك، فما كان منه إلا أن رد عليه بأنها زوجته ومن حقه أن يضربها، فرد عليه الزعيم ناصر قائلا: “نعم هي زوجتك . . ولكن لابد أن تعرف أنك لست نسيب الشيخ إبراهيم والد أم كلثوم حتى يتصدى لك ويسألك ماذا فعلت بابنته؟ ولكنك نسيب الشعب العربي كله . . وهو من سيتصدى لك ويسألك عما تفعله بها”!
وربما كان أيضاً هذا هو الرد الذي قاله الزعيم جمال عبدالناصر لمطرب الثورة عبدالحليم حافظ، عندما راح يشكو له مرة إساءة قامت بها أم كلثوم تجاه حليم، فما كان من ناصر إلا أن قال له: لا أنا ولا أنت نقدر أن نمس أم كلثوم . . فخلفها الشعب العربي كله .
لم يكن حرص ناصر على الفن والفنانين لمجرد أنهم يخدمون الثورة وينطقون بإنجازاتها في أغنياتهم، بل تقديراً منه لدور الفن في تقدم الشعوب ورقيهم أيضاً، وهذا ما جعله يجمع لأول مرة منذ ظهورهما، عملاقي الغناء والتلحين، أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب، ليقدما معاً في عام 1965 أغنية “إنت عمري” بناء على طلب من جمال عبدالناصر بأن جمهورهما يريدهما أن يعملا معاً .
هكذا كانت نظرة زعيم الأمة العربية جمال عبدالناصر للفن وللفنانين، خصوصاً بعد أن بدأ الفن يعيش عصر ازدهاره وتقدمه بعد قيام ثورة يوليو، نظراً لتقدير الدولة لدور الفن والفنان في حياة الشعوب .
لم يكن الأمر قاصراً على المطربين والمطربات، بل كان للمثلين دور كبير له عظيم الأثر أيضاً، مثل إسماعيل ياسين الذي أصر على إعادة تصوير فيلم “بيت النتاش” الذي كان قد انتهى من تصويره إبان قيام ثورة يوليو ،1952 ليضمن الفيلم منولوجاً طويلاً يحيي فيه الثورة والضباط الأحرار الذين قاموا بها، وكذلك انتقال الحالة الثورية من السياسة إلى السينما، وتقديم عدد كبير يشرح للشعب فترة فساد ما قبل الثورة، وخصوصاً ما حدث في حرب فلسطين عام ،1948 والأسباب التي أدت إلى قيام الثورة، مثل أفلام “رد قلبي، الله معنا، القاهرة ،30 شروق وغروب، في بيتنا رجل، السمان والخريف، بداية ونهاية” . . وغيرها الكثير من الأعمال التي أرخت لثورة يوليو على أيدي عدد كبير من الفنانين منهم أنور وجدي، إسماعيل ياسين، عماد حمدي، كمال الشناوي، عمر الشريف، أحمد مظهر، رشدي أباظة صلاح ذو الفقار، والمخرجون عز الدين ذو الفقار، وحسن الإمام، وعاطف سالم، وكمال الشيخ، وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين، وغيرهم .
وصل الأمر من الإيمان بدور الفن في التأثير في الشعوب ومساندته للثورة وأهدافها، أن طلب الزعيم جمال عبد الناصر من الفنان فريد شوقي تقديم فيلم سينمائي يشرح فيه العدوان الثلاثي على مصر ومحاولة النيل منها بعد نيلها الاستقلال والتخلص من الملك الفاسد، وجلاء البريطانيين عن مصر بعد احتلال دام 71 عاماً، وقدم فريد شوقي فيلم “بور سعيد” الذي نال عنه وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عن جدارة، إضافة إلى تلميح الزعيم ناصر للفنان إسماعيل ياسين بإظهار الدور الوطني للجيش المصري، ومحاولة جذب الشباب لأداء الخدمة العسكرية الوطنية، فما كان منه إلا تقديم سلسلة أفلام إسماعيل ياسين، منها “إسماعيل ياسين في الجيش، إسماعيل ياسين في الأسطول، إسماعيل ياسين في الطيران، إسماعيل ياسين بوليس حربي، وإسماعيل ياسين في البوليس” .
هكذا كانت نظرة الدولة ونظرة زعيم الدولة للفن والفنانين، وهكذا كان التقدير اللائق بهم، وربما هذا ما جعل عبدالناصر يطلق عيداً للفن وللفنانين يتم خلاله تكريم الرواد والمبدعين منهم، ومنحهم جوائز ونياشين الدولة، إيماناً بدورهم وما قدموه، ذلك العيد الذي استمر خلال عهد الرئيس التالي محمد أنور السادات، وتم إلغاؤه في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك، حتى وصل الأمر إلى محاكمة الفنانين والمطالبة بإيداعهم السجون في العهد الحالي وبعد سيطرة الإسلاميين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي لعبت أغاني ثورة يوليو الوطنية دوراً مهماً خلالها، لإلهاب حماس الشعب المصري في ميدان التحرير، إضافة إلى ظهور عدد كبير من الشباب الذين يعود الفضل لاكتشاف قدراتهم إلى الثورة، إلى جانب كبار الفنانين الذين أسهموا بقدر ما مثل علي الحجار ومحمد منير وحمادة هلال، وغيرهم قبل أن تظهر في الأفق حالة الارتداد للخلف .