2012/07/04
مرهف زينو – بلدنا
أبعدوني عن السينما بسبب شلليتهم
تيسير إدريس: في المسرح أجد فسحة للحب والتأمل والتطهر
كانت إطلالته الأولى على خشبة المسرح قبل أكثر من أربعين عاماً، وبالتحديد في العام 1970، من خلال مشاركته في مسرحية «وجوه عبر الموت» مع الفنان زيناتي قدسية.
وبعدها تتالت المشاركات، لتتجاوز الآن أربعين مسرحية، إضافة إلى العشرات من الأعمال الدرامية التلفزيونية المتميزة، وله مشاركات سينمائية كان أبرزها دور البطولة في فيلم «صعود المطر»،
الذي نال عنه جائزة أفضل ممثل في الدورة التاسعة لمهرجان دمشق السينمائي.
ورغم كلّ هذه النجاحات التي حقَّقها الفنان تيسير إدريس هنا وهناك، يبقى المسرح عشقه الأول والأخير، و«الملاذ والملجأ الذي يهرب إليه ناشداً: التأمل، والحب، والتطهر»؛ حسب تعبيره.
«بلدنا» التقت تيسير إدريس في ملاذه، بين كواليس مسرح الحمراء، وهو يتدرب على أداء دوره في عمل مسرحي جديد، بعد أيام قليلة فقط من انتهائه من أداء دور البطولة في مسرحية «الأميرة والصعلوك»، التي أنهت عروضها مؤخراً، ليكون لنا معه هذا الحوار:
¶في الوقت الذي نجد فيه الكثير من الفنانين والعاملين في المسرح يهجرونه، أو لنقل يُعرضون عنه، مكتفين بأعمال خجولة بين الحين والآخر تحت ضغط الإغراءات الكثيرة التي تمنحها لهم السينما أو الدراما التلفزيونية خاصة، نجد أنَّ قلة قليلة من الفنانين لايزالون متمسّكين بإعادة الألق إلى الخشبة، وأنت واحد من هذه القلة. ما سرّ هذا العشق؟
المسرح هو كلّ شيء بالنسبة إلي؛ ليس فقط لأنه «أبو الفنون» كما يُقال، بل لأنني أعتبره الفضاء الحقيقي لتفتّح موهبة الفنان (الممثل) والاختبار الفعلي لمقدرته.
هذا ليس انتقاصاً من مكانة السينما أو التلفزيون؛ فالممثل هو الممثل في النهاية، وفي المجالات كافة.. لكنني أعتبر أنَّ المسرح هو الأساس؛ لأنَّ الممثل يقف على الخشبة دون رتوش أو حجب، ويكون على علاقة حميمة ومباشرة مع الجمهور، وهنا تكمن مقدرته وإبداعه (هذا من جهة). من جهة أخرى، هناك علاقة خاصة تربطني بالمسرح؛ فهو الملاذ والملجأ الذي أهرب إليه، رغبة في التأمل والحب والتطهر.
من خلال المسرح، أعيش التأمل والتطهر والحب وأحقّق إنسانيتي ووجودي.
- «كل ما يقال عن وجود «أزمات» هو أمر مفتعل!.
¶ هناك من يقول إنَّ المسرح السوري يعاني من أزمة تتجلّى في عدة جوانب: ندرة النصوص المحلية، وهجرة الممثلين، وصولاً إلى العلاقة «الفاترة» بين المسرح والجمهور وإحجام هذا الأخير عن حضور العروض المسرحية الشحيحة أصلاً. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟
أولاً أنا لا أعتقد بوجود أزمة في المسرح أو أيّ من الفنون الأخرى. يقولون: أزمة المسرح، أزمة الدراما التلفزيونية، أزمة الشعر... إلخ.
هذه كلّها، في رأيي، أزمات مفتعلة، يفتعلها النقاد والصحفيون والمسؤولون، لكي يقيموا محاضرات وندوات، ويجروا مقابلات صحفية!!. الأزمة في رأيي تكمن في وجود إنسان يفهم أو إنسان جاهل، إنسان مخلص لعمله وفنه وآخر مهمل..
المشكلة تكمن في قلة المعرفة والثقافة لدى الفنان، أو قلة الموهبة. الموهبة وحدها لا تكفي؛ يجب أن يمتلك الممثل ثقافة عالية في كلّ شؤون الحياة، وإلا لا يكون ممثلاً حقيقياً.
فالممثل الحقيقي هو الفاهم الأول للحياة؛ لأنه يتقمّص كلَّ الشخصيات الموجودة في هذه الحياة.
ولهذا يجب أن يفهم الحياة بأكملها، كي يستطيع أن يوصل للمتفرج ما يريد إيصاله...أما فيما يتعلَّق بقلة النصوص المسرحية، فأنا لا أعتقد ذلك؛ لأنَّ مكتبتنا المسرحية غنية، ولكن ثمة حاجة إلى البحث الجدي والمخلص عن النصوص الجيدة، وهي موجودة بكثرة. عن النقطة الأخرى، التي تتعلَّق بالعلاقة بين المسرح والجمهور، أقول: دائماً كانت هذه العلاقة مثار جدل وأخذ وردّ، لكنني لا أعتقد بوجود هوة بين المسرح والجمهور، كما يقول بعضهم؛ بدليل أنك عندما تقدّم عملاً مسرحياً ناجحاً وهادفاً يحضر الجمهور بكثافة وطوال فترة العرض. أما قلة هذه الأعمال الجيدة وتباينها بين موسم وآخر فهذا أمر طبيعي، وهو حال كلّ الفنون وصنوف الإبداع الأخرى.
وحسب رأيي، يكفي أن تقدّم عملين جيدين من بين كلّ خمسة أعمال.
وهذا دليل عافية لا دليل وجود أزمة. أحبّ الأدوار المركبة، وأختارها بعناية.
¶إحدى السمات، التي تميّز غالبية الأدوار التي أدّيتها عبر مسيرتك الفنية في المسرح والسينما والتلفزيون، اختيارك الشخصيات المركبة.
وقد تجلّى ذلك أخيراً في أدائك شخصية «حسن النساخ» في مسرحية «الأميرة والصعلوك»، عن نص للكاتب المصري ألفريد فرج، ومن إعداد وإخراج حسين إدلبي.
ماذا تحدثنا عن هذه التجربة؟
أولاً، في كل أعمالي أتقصّد اختيار الشخصيات المركبة؛ لأنها شخصيات غنية وتطرح أسئلة وإشكالات. أنا بطبعي لا أحبّ الاستسهال ولا النمطية في الأداء.
ولهذا أختار أدواري بهدوء وعناية. بالنسبة إلى شخصية «حسن النساخ» فقد أحببتها كثيراً، ولو لم أحبها لما لعبتها.
إنها مكتوبة بعناية ومستوحاة من أجواء ألف ليلة وليلة، العمل العظيم الذي أحبه كثيراً.
إنها تمزج بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والوهم، الحلم واليقظة.. وحتى هذه اللحظة، لا أدري إن كان ما حصل مع حسن النساخ وزمردة حقيقة أم وهماً، واقعاً أم خيالاً؟..
هذا النمط من الشخصيات هو الذي يستهويني، خاصة في الأعمال المسرحية.
ولا أعتقد أنني سوف أغيّر أسلوبي في المستقبل؛ لأنَّ الفنّ الحقيقي (المسرح) هو الذي يطرح إشكالات وأسئلة، ويدفع المشاهد إلى التفكير والبحث عن دلالات وأجوبة حول ما يشاهده على الخشبة.
وهذا الأمر لا يتحقَّق إلا بتجسيد أدوار من هذا النمط الثر.
¶ من الملاحظ أنك، في كثير من الأحيان وفي أكثر من عمل مسرحي، تقوم بالارتجال، خاصة في عملك الأخير، بل تلجأ إلى استحضار أبيات من الشعر والغناء أيضاً.
أليس في هذا الأمر مخاطرة، ولماذا تمارسه كثيراً؟
أنا أحبّ الارتجال، وأعتقد أنه يسهم في إغناء الشخصية، لكن بشرط أن يكون منظماً؛ أي أن يدرس الممثل الشخصية التي يريد لعبها على الخشبة بشكل عميق، وأن يكون ارتجاله منسجماً مع هذه الشخصية ومضمونها، لا أن يكون مجرد حشو وتهريج.
خذ مثلاً شخصية «حسن النساخ» هي شخصية كاتب ماجن، يشرب الخمر ويتغزّل بالنساء.
ولذلك، قمت بتحريض المخرج على الارتجال، وأتيت بأشعار وعبارات لأبي النواس وأضفتها إلى حوارات حسن النساخ، لأزيد من هذه الصبغة الماجنة للشخصية، كما استخدمت الغناء أيضاً..
ولو كان عمل الموسيقا في العرض أفضل، لكان الأداء أفضل، حتى إنني تمنيت لو تمكنت من الرقص على الخشبة..
¶ أليس الارتجال الطريقة الأمثل للتقرب من زمردة حبيبة حسن النساخ وجعلها تقع في غرامه؟.
بهذا المعنى أنا مع الارتجال، الذي يغني الشخصية ويجعلها أكثر قرباً إلى الجمهور وأكثر تفاعلاً معه.
إن كنت مقتنعاً بلعبة المسرح ومستمتعاً بها، فمن المؤكد أنَّ الجمهور سيستمتع معك.
هناك خيوط يحيكها الممثل بينه وبين الجمهور.
وبقدر ما تكون هذه الحياكة متقنة ومتينة، بقدر ما نحقّق المتعة عبر هذه اللعبة التي أدعوها المسرح.
أما فيما يتعلّق بالغناء، فتلك مسألة طريفة؛ لأننا جميعاً في المنزل نحبّ الغناء، خاصة والدتي، التي كان لها صوت جميل.
وبقي تعلّقي بالغناء حتى الآن، وهو هواية أجد المتعة في ممارستها على المسرح بين الحين والآخر، شرط أن تكون من صلب الدور الذي أؤديه، وليست نوعاً من الزينة أو «الفزلكة».
¶في الدراما التلفزيونية، تبدو ميالاً إلى تقديم الشخصيات التاريخية، كأدائك شخصيات: الحسين بن علي، وأيوب، وهرتزل... ما سرّ ولعك بهذا النمط من الأدوار؟، وكيف استطعت التوفيق بين أدائك شخصية «هرتزل» في المسلسل الدرامي «الشتات» وبين أدائك شخصية أحد قادة خلايا المقاومة في القدس في المسلسل الدرامي «سفر الحجارة»؟
أحبّ تجسيد الشخصيات التاريخية بشكل عام، وكنت قد جسَّدت شخصية الحسين بن علي في كربلاء في مسرح مساحته أكثر من أربعة دونمات، وكان هناك عشرات الآلاف من المتفرجين.
وقد جسَّدت الدور بحبّ وأمانة.
ومن الأدوار التاريخية التي أديتها في مسلسل جعفر الصادق شخصية الوزير «أبو سلمى الخلال»، وهي شخصية محورية في العمل.
فيما يتعلق بأدائي شخصية «هرتزل» في مسلسل الشتات، أقول: لقد كان هذا الدور من أهم الأدوار التي لعبتها في الدراما التلفزيونية.
لقد جسدت هذه الشخصية بشكل مختلف تماماً..
من السهولة أكثر أن تجسّد شخصية رجل مقاوم، فأنا رجل مقاوم وأومن بأنَّ المقاومة هي السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق العربية.
ولهذا لم أجد صعوبة في أداء دور قائد لإحدى خلايا المقاومة الفلسطينية.
لكنَّ الأمر اختلف تماماً عند أداء شخصية هرتزل؛ فهو عدوي اللدود ومؤسس الحركة الصهيونية..
أنا أظهرته ديكتاتوراً ومحامياً وصحفياً ومثقفاً، ولكن في الوقت نفسه كان لي موقف منه؛ لأنني أعتبره عنصرياً، وبذلت جهدي كي أقدّمه عنصرياً.
نعم كان لي موقف من هذه الشخصية، هو كيف أظهر للعالم كم كان هرتزل عنصرياً.
ولم أصل إلى هذا الموقف بشكل كامل إلا بعد أن قرأت كل بروتوكولات حكام صهيون، إضافة إلى كتاب هرتزل نفسه «دولة اليهود»، الذي يُظهر عنصريته وحقده على السلام والمسلمين وعلى المسيحية والمسيحيين، حين يعتبر أنَّ دولة اليهود يجب أن تكون خالية من المسلمين والمسيحيين على حد سواء. لقد تعذَّبت كثيراً في أداء هذا الدور، على النقيض تماماً مع الدور الآخر الذي يمثلني في الواقع ويتطابق مع طبيعتي وانتمائي.
¶ مشاركاتك في السينما معدودة جداً ولا تتناسب مع حضورك في المسرح والتلفزيون. ولكن، على الرغم من ذلك، كانت هذه المشاركات في الأفلام الثلاثة متميزة، خاصة عند حصولك على جائزة أفضل ممثل عن دورك في فيلم «صعود المطر» في الدورة التاسعة لمهرجان دمشق السينمائي التاسع. حدثنا عن هذا الدور، ولماذا هذا الشحّ في الأعمال السينمائية التي شاركت فيها؟
- من البديهي أن أقول إنني كنت سعيداً جداً وراضياً عن دوري في فيلم صعود المطر. وأعتقد أنَّ أحد أسباب نجاحي ونجاح الفيلم أنه يتحدّث عن أهمّ مسألتين أحبهما في حياتي، وهما: الدعوة إلى المحافظة على الحبّ لأنه من أسمى القيم الإنسانية على الإطلاق، والدعوة إلى المحافظة على المبدع لأنَّ الإبداع هو جوهر الحياة. أما قلة أعمالي السينمائية، فسببها العلاقات الخاطئة داخل الوسط الفني. هذه العلاقات مبنية على الشللية وأخلاق العصابات. هم لم يقوموا بدعوتي للمشاركة في أيّ عمل، على الرغم من تميّزي في الأعمال السينمائية التي شاركت فيها. لقد أغلقوا أبواب السينما في وجهي. وليس حال التلفزيون أفضل من حال السينما؛ فالعقلية التي تحكم العمل هناك هي ذاتها.. والأنكى من ذلك، أنك عندما تذهب إلى التلفزيون يقابلك مخرجون هواة لا خبرة لديهم، ويبدؤون بالتحكم في خياراتك، ويختارون من يريدون، ويبعدون من يريدون، دون أن تعلم على أيّ المقاييس والمعايير يعتمدون في سلوكهم هذا.