2012/07/04
رضاب نهار- ميدل ايست أونلاين
أغفلت المسلسلات الشامية التي درجت مؤخراً بشكل كثيف، بعض الحقائق التاريخية المتعلقة بسوريا وروّجت لأخرى. فأظهرَت البيئة الشاميّة ضمن قالبٍ جامد موحّد وخالٍ من التنوع وأوصلته إلى عقول المشاهدين في العالم وكأنه الحقيقة المطلقة، وصارت الخصال التي حكمت منطق وعقل السوري قديماً معروفة للصغير قبل الكبير.
ولكن للأسف تشوب هذه الحقائق المقدمة عبر الدراما التلفزيونية أخطاء تاريخية لا تغتفر، فهل من المعقول أن كل النساء السوريات كنّ عبارة عن"ربات منزل" يخدمن أولادهن وأزواجهن في بدايات القرن العشرين؟ وهل من المعقول أن الحياة الاجتماعية للمرأة السورية آنذاك اقتصرت على زيارات نسائية بحيث تكون "النميمة المبتذلة" هي الفكرة الأساسية لأي حوار.
للأسف حاولت الدراما الشامية الحديثة طمس كل المعالم الثقافية والحضارية لدمشق، لتقدّم هذه العاصمة على أنها حارات تفصلها أبواب، و يحرس الباب أهل الحارة الخائفين من الآخر الغريب. لتبدو دمشق القديمة منغلقةً على نفسها، مبتعدةً عن كل ما هو جديد وفريد.
وأما الشخصيات المطروحة في تلك المسلسلات، فيفتقر معظمها إلى التعقيد النفسي والاجتماعي متسمةً بالبساطة في تركيبتها الداخلية. منها الشرير ومنها الخيّر مع غياب واضح للشخصيات المزدوجة البنية عن الحدث الدرامي.
نلاحظ أن الرجل السوري في مثل هذه السيناريوهات، يعاني من إحدى أنواع "البدائية" التي تجعله يبتعد عن المحاكمة العقلانية إذا ما وقع أي حدث مهما كان بسيطاً. مع أنها حاولت إبراز بعض الصفات الإيجابية فيه كإعانة المظلوم والشهامة والكرم.
لكن عقل ذلك الرجل بقي متمثلاً في "عضلاته وشواربه" ظناً منه أن الرجولة الحقيقية تقوم على هاتين الصفتين فقط. والمرأة بالنسبة له ضلعٌ قاصر يحتاج للحماية الكاملة والمراقبة الدائمة. وأما معايير الخطأ والصواب في حياته فتحكمها التقاليد المتوارثة التي ربي عليها في حارته، وهي موحّدة بين كل شخصيات الحارة بغض النظر عن كونها صحيحة أو خاطئة.
وتأتي صورة المرأة في شكلٍ قبيح تماماً ينافس الشكل المقدّم للرجل في قبحه. فالمرأة الشامية القديمة كما تظهر في المسلسلات، تعيش حياتها من وراء الأبواب وبين جدران المنزل الواسع. الأعمال المنزلية كل ما تستطيع فعله وهي المعيار الأول لقياس الجودة والفاعلية في الحياة. في الوقت الذي نكتشف فيه أنها السبب في كل ما يحدث بين رجالات الحارة من علاقات ومشاكل.
تكررت كلمة "منعابة" في عددٍ كبير من تلك المسلسلات، وهي صفة تُطلق على الفتاة عديمة الأخلاق. ومن خلالها تم تجريد العار والشرف من مفهومهما الواسع، وتقلّصا ليصبا فقط في جسد تلك القابعة في المنزل.
وكم من مسلسل شامي بنيت أحداثه على تلك الكلمة، وحكَت حلقاته عن قصة فتاة مظلومة تعاني من اتهام في شرفها وأخلاقها. ويتم التركيز على حالة الظلم وعدم صحّة ما يقال حول الفتاة لإثبات أن فعل "العيب" لم يحدث ولا يحدث أبداً في حاراتنا الشامية.
كيف لهذه المسلسلات أن تغيّب الدور الحقيقي والفاعل للمرأة السوريّة، التي شاركت في الحياة العامة منذ نهاية القرن التاسع عشر. فمن سوريا خرجت النسوة في أول مظاهرة نسائية في تاريخ الشرق كله. حيث ندّدن بالسياسة الاقتصادية للوالي العثماني عندما رفع أسعار المواد الغذائية.
هل نسي كتّاب الدراما الشاميّة "ماري عجمي 1888 ـ 1965"، مؤسّسة مجلة العروس في العام 1910، التي نشأت في بيتٍ دمشقيّ متلقيةً تعليمها في المدرستين الروسية والإيرلندية لعدم وجود مدارس وطنية. وألّفت الشعر والقصّة بالإضافة إلى عملها كمراسلة صحفية لأكثر من صحيفة في سوريا ولبنان.
وهل راح عنهم الأديبة "ألفت الإدلبي 1912 ـ 2007" كاتبة القصص التي ترجمت أعمالها لأكثر من 15 لغة أجنبية. والتي تنتمي في ولادتها ونشأتها لحي الصالحية في دمشق القديمة.
التاريخ القديم والمعاصر يثبت أن المرأة السورية كان لها خطواتها الجريئة في الحياة. ووقفت إلى جانب الرجل في النهضة الثقافية والاجتماعية التي حدثت في البلاد. وواجهت الانتداب الفرنسي بصفات مختلفة وليس كربة منزل فقط.
حتى الشام القديمة لم تكن بذلك الشكل المقدّمة فيه، كانت منفتحة في أماكن كثيرة منها على الآخر، يعيش فيها أبناؤها وزوارها حالة تطور دائم في المفاهيم الحياتية والفكرية والفنية والسياسية أيضاَ.
ونجد الشام القديمة في صفحات بعض الروائيين السوريين مثل فواز حداد الذي حكى عنها وعن حالة الازدهار الرائعة التي كانت تعيشها في الثلاثينيات من القرن العشرين.
من البديهي أن يكون لكل مدينة عدة وجوه، يلتقي فيها المزدهر مع المظلم جنباً إلى جنب. ومهمة الأدب والفن تصوير الحقيقة التاريخية كما هي، وهذا لا يتنافى مع صفة الإبداع التي يقومان عليها.
لكن أن تشوّه الحقائق، ليتم التركيز على وجه دون آخر يسوق على أنه الوحيد فقط، يثير سؤالاً حول الهدف من ذلك.