2012/07/04
عوض القدرو
لفرجة السينما في حياتنا معاني كثيرة لايمكن لأي عاشق سينما أن يبوح بها، لكثرة ما تحمله الفرجة السينمائية في مخيلتنا من أشياء وأشياء، وأماكن هذه الفرجة الممتعة على ارتباط وثيق ومتين مع عشاقها، وبينها وبينهم حالة من العشق الأبدي الذي لا يبارح الذاكرة والوجدان وهذا ما دفعني لكتابة هذه السطور.
للسينما في سورية عموماً، ودمشق خصوصاً، تاريخ عريق امتد منذ نهاية العشرينات من القرن الماضي، وكتبت نهاية القرن الماضي كلمات النهاية لمتعة فرجة السينما في دمشق، إذ أصبحت دور عرض السينما في العاصمة اليوم شاهدة عصر لكل من يمر من أمامها ويحمل في ذاكراته ووجدانه ما يحمل لهذه الصالات من ذاكرة جميلة ومن أحلام وضحكات ودمعات كانت جدران هذه الصالات أدرى بها وكانت الحاضنة لها. وحسب عمري وحسب ما أعرف من معلومات عن عدد دور العرض في سورية، وبحكم عمل والدي في السينما بنهاية 1956 فلقد كان هناك العديد والعديد من صالات السينما، طبعاً فحسب المعلومات أنه كان هناك في دمشق حوالي 4 صالات سينما مع بداية أول عرض سينمائي، الذي بدأ في حلب والصالات هي: سينما المملوكي (مكان مقهى الروضة حالياً - شارع العابد)، سينما الرشيد الصيفي (مكان المركز الثقافي الروسي حالياً - شارع 29 أيار)، سينما جناق قلعة (مكان فندق سمير- ساحة المرجة) والتي احترقت فيما بعد كون هذه الصالة كانت كلها مصنوعة ومركبة من الخشب كونها كانت في الطابق العلوي من البناء، وسينما الهبرا، التي أسسها الرائد نزيه الشهبندر، والذي كان له الفضل الأول بإنتاج وإخراج أول فيلم سوري ناطق كان عنوانه "نور وظلام"، ومكان هذه الصالة اليوم هو الطريق الحجري الاسفلتي الممتد من ساحة باب توما الى القشلة، وتحديداً مقابل رابطة العباسيين، ومازالت حتى هذا اليوم تنتظر مصيرها من الذي اشتراها من ورثة نزيه الشهبندر ليحولها لمطعم كون دمشق القديمة تفتقر اليوم إلى المطاعم!
وتوالى بعد ذلك ظهور صالات السينما في دمشق بدءاً من سينما الكوزموغراف، والتي أصبح اسمها فيما بعد سينما أمية، والتي كان يملكها توفيق الشماس الذي يعود الفضل إليه بإدخال أول فيلم أجنبي ناطق عام 1947 إلى سورية وتم عرضه في هذه الصالة، ومكان هذه الصالة هو مكان المستشارية الثقافية الإيرانية، ومن ثم توالى افتتاح صالات السينما في دمشق بداية مع سينما النصر التي تمت تسميتها فيما بعد سينما سورية، وكان مكان هذه الصالة على يمين سوق الحميدية وكل الناس التي تنزل بالدرج الكهربائي للنفق المجاور لسوق الحميدية ترى على يسارها حديقة مرخمة ومسورة، هذه الحديقة هي سينما النصر أو سينما سورية، ولفناني سورية القدامى وفناني مصر الكثير والكثير من الذكريات على مسرح هذه السينما، إذ كان اسمها مسرح وسينما النصر، وقد وقف على منصة مسرحها الرواد من الفنانين السوريين وعلى رأسهم: أنور البابا، أم كامل، سعد الدين بقدونس، سلامة الأغواني، رفيق شكري... وشهدت البداية الحقيقة للفنانة السورية "إغراء" والتي فتحت فيما بعد أمامها الطريق الى مصر. ومن مصر أيضا وقف على منصة هذه الصالة: المطرب الشعبي محمد طه الذي أبدع وشدا بالقصة الشعبية، شفيقة ومتولي، والمطرب الشعبي شفيق جلال الذي مثل في العديد من الأفلام المصرية، ولعل أبرزها "خلي بالك من زوزو"، وغيرهم... وللذكر فإن مؤسس وصاحب هذه الصالة هو بهجت المصري، والذي يعتبر أيضا من المؤسسين الأوائل لتوزيع وتجارة الأفلام السينمائية، إلى جانب توفيق الشماس، وتم فتح صالة سينما الشرق وهي نزلة زقاق رامي، الشارع النازل من منتصف شارع النصر الى ساحة المرجة، وعرفت فيما بعد باسم سينما بيبلوس، وكان صاحبها وحيد طيان المنتج والموزع السينمائي والذي أنتج العديد من الأفلام السورية ولعل أبرزها "زواج بالإكراه" بطولة نور الشريف سهير رمزي رفيق سبيعي، وعلى مقربة منها تقع خلف وزارة الداخلية سينما غازي، ومن الطرائف التي يجب ذكرها عن هذه الصالة أن من شدة سعادة صاحب السينما بافتتاحها وكان اسمه أبو حاتم، فكان يضع صورته على شاشة السينما قبل بداية كل عرض، وكان يقف على باب السينما، ومن باب الفكاهة كان ينادي: «لحق محلات.. أبو حاتم شخصي على الشاشة»، وطبعاً كان يتم هذا الأمر في مواسم الأعياد، حيث مرتادو السينما في موسم الأعياد غالبيتهم العظمى من الأولاد وسكان الريف، والشيء بالشيء يذكر، فإنه كان هناك طقس معين وغريب لهذه الصالة، إذ كانت تعرض في موسم الحج فيلماً وثائقياً قصيراً عن الحج، والفيلم المصري "سلامة" من بطولة أم كلثوم، وكانت تعرض في عيد الفصح فيلم "آلام السيد المسيح" بنسخته القديمة وليس نسخة ميل غيبسون..
من ثم تم افتتاح سينما دمشق مكان سينما سيتي حالياً في منطقة جسر فكتوريا، وشهدت هذه الصالة أياماً ذهبية إذ كانت صالة متخصصة فقط بالفيلم العربي حسب ما قاله لي مديرها السيد جوزيف منصوريان، والذي يعتبر اليوم أقدم مدير صالة سينما في سورية ولربما في الوطن العربي، طبعاً أصبح مديراً للسينما بحكم قرابته من صاحب السينما توفيق الشماس، وكان لي الحظ أنني عملت في هذه الصالة لمدة عشر سنوات، وكنت استمتع بحديث الذكريات الجميلة عنها، إذ قال لي ذات مرة إن سينما دمشق منذ عام 1957 ولغاية 1977 لم تعرض أي فيلم أجنبي، ومن بين الأحداث التي بقيت راسخة في ذاكرته والتي لا يمكن أن ينساها قال لي: «في ذات الأيام اخبرنا توفيق حبوباتي الصديق الشخصي المقرب من الموسيقار محمد عبد الوهاب أن عبد الوهاب يريد أن يعرض فيلمه "لست ملاكاً" في دمشق، وقد نصحته بحكم أنني متأكد من سمعة سينما دمشق أن يتم عرض الفيلم عندكم وسيقوم عبد الوهاب غداً صباحاً بزيارة الصالة للتأكد من جاهزيتها ونظافتها كون محمد عبد الوهاب كان هاجسه النظافة»، ويكمل منصوريان الحديث: «فتم استنفار عمال وموظفي الصالة لتجهيز وتنظيف وتلميع الصالة على الرغم من أننا كنا نقوم بهذا العمل بشكل يومي، وأصبحت الصالة جاهزة، وفي صباح اليوم التالي حوالي التاسعة صباحاً وصل عبد الوهاب برفقة توفيق حبوباتي وتوفيق الشماس، وترجل من السيارة باتجاه السينما، وقبل أن يصل الى باب السينما بعدة أمتار عاد وركب في السيارة بدون معرفة سبب ذلك وسأله توفيق حبوباتي وتوفيق الشماس ما بدك تشوف السينما فقال: "أنا مش حاعرض فيلمي في السينما دي" ومضى وعرض فيلمه بعد أسبوع بسينما عائدة التي افتتحت بالتزامن مع سينما دمشق والتي هي موجودة اليوم بعد البريد في طلعة الحجاز والتي اصبح اسمها فيما بعد سينما أفاميا، ومنذ عشر سنوات أصبح اسمها سينما أوغاريت. وقبيل مغادرة عبد الوهاب لدمشق سأله توفيق الشماس: "ممكن لو سمحت تقلي ما هو السبب الذي حال دون عرض فيلمك في صالتي؟"، أجابه عبد الوهاب: "الصالة بتاعتك مش نظيفة" فأجابه الشماس: "بس حضرتك ما دخلت عليها حتى تحكم هذا الحكم"، أجابه عبد الوهاب: "ما فيش داعي.. أنا عرفتها مش نظيفة لأني شفت على باب السينما عقب سيكارة مرمي على الأرض"، فقال له الشماس: "وما دخل الصالة في هذا؟ ربما قام أحد المارة برمي ذلك العقب"، فأجابه: "يا أستاذ توفيق.. لازم تعرف إن إنت مش بس مالك السينما من جوا، إنت لازم تحافظ على مشاعر الزبون الجاي لعندك حتى قبل ما يوصل لعندك، وتحسسه بكل حاجة إنها كويسة". وانتهى الحديث».
ومسرح سينما دمشق شاهد حقيقي على نجوم الذهب الذين صعدوا وحيوا جمهورهم، إذ كان الطقس السينمائي المتبع أن كل فيلم كبير وله سمعة طيبة كان يأتي بطل أو بطلة الفيلم شخصياً مع هذا الفيلم، فمن عمر الشريف وإسماعيل ياسين وسعاد حسني، إلى الثنائي العظيم كمال الشناوي وشادية، وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. كلهم وقفوا على مسرح سينما دمشق، وللذكر أيضاً كان يعرض فيلم "أنت حبيبي" لفريد الأطرش الذي كان نزيلاً بفندق السميراميس، وكانت سينما دمشق كغيرها تتبع نظام حفلة خاصة بالنساء وكان موعدها يوم الأربعاء، حفلة الساعة 3 عصراً، وطبعاً تتسع سينما دمشق لحوالي 1600 كرسي، وخارج الصالة كان يوجد 1600 أمرأة ينتظرن على باب الصالة حتى يحين موعد فتح الأبواب، وعندما عرفن أن فريد الاطرش نزيل بالسميراميس أصبحن يهتفن ليخرج فريد ويلقي التحية عليهم، وفعلاً ما إن أطل فريد الأطرش من شرفة الفندق حتى تعالت زغاريد النسوة، كما حضرت سيارات الإسعاف لتقوم بإسعاف النسوة اللاتي أغمي عليهن عندما أطل فريد الأطرش. آآه.. ذكريات ماسية الوهج وذهبية في تاريخها.
وتم توالي افتتاح صالات السينما، فافتتحت سينما الأهرام الموجودة قرب مقهى الهافانا، وكان اسمها روكسي، لصاحبها المنتج السوري صبحي فرحات، والذي كان زوجا للمثلة المصرية زبيدة ثروت، وأحضرها شخصياً مع عبد الحليم حافظ لافتتاح عرض الفيلم الذي أنتجه لهما "يوم من عمري"، وتوالت فيما بعد: افتتاح سينما العباسية مكان صالة 8 آذار قرب سينما دمشق، وسينما أدونيس والتي أصبح اسمها فيما بعد سينما بلقيس والآن سينما الكندي التابعة للموسسة العامة للسينما، وسينما فريال أو القاهرة أو أوغاريت في مدخل الصالحية، قبل سينما الأمير تماماً، التي افتتحت فيما بعد، وسينما الزهراء والحمراء وسينما الدنيا والفردوس بشارع الفردوس.
والجدير ذكره أن مستثمر سينما الفردوس في ذلك الوقت، الموزع السوري حكمت أنتيبا، كان يستورد الأفلام الإيطالية، وكانت موضة أفلام العضلات هي الرائجة في ذلك الوقت، وعرض في سينما الفردوس في نفس الوقت مع صالات السينما في روما في إيطاليا فيلم "المصارعون العشرة" من بطولة النجم الذهبي في ذلك الوقت دان فاديس، وكان أن حضر فاديس إلى تلك الصالة شخصياً، التي تعود ملكيتها للموزع أكرم المهايني وكيل السينما المصرية في سورية، لحضور افتتاح هذا الفيلم، ولسينما الدنيا ذكريات أيضاً إذ تم عرض مجموعة من الأفلام العالمية الذائعة الصيت، ولعل أبرزها "نفوس معقدة" أو "سايكو"، ومن الشخصيات المهمة التي أتت إلى هذه السينما كان جمال عبد الناصر، ومن أكثر الأفلام استمرارية في سينما الدنيا كان فيلم "أبي فوق الشجرة"، إذ استمر عرضه لمدة 35 أسبوعاً.
وتوالى فيما بعد افتتاح سينما السفراء والخيام للراحل أنطون لطفي، ومن ذكريات هذه السينما أيضاً استمرار عرض فيلم "خلي بالك من زوزو" لمدة 40 أسبوعاً، وحضور المخرج العالمي السوري الراحل مصطفى العقاد في افتتاح فيلمه "عمر المختار" الذي عرض بالنسخة الناطقة بالإنكليزية، وكان هناك صالتا سينما في منطقة مخيم فلسطين، الأولى كان اسمها سينما النجوم والثانية سينما الكرمل، وكان هناك صالة سينما بدوما وصالة سينما في بلودان وثالثة في الزبداني، وبعد أن أنتج نادر أتاسي فيلم "الحدود" لدريد لحام، تم افتتاح صالة سينما الشام بهذا الفيلم، وتم أيضاً افتتاح صالة سينما سيتي بفيلم من إنتاج نادر أتاسي الذي هو مالك السينما حالياً وكان اسمه "سلينا"، ويبدو أن نادر أتاسي، هذا المتتج الكبير والذي يعتبر شيخ المنتجين السوريين، عندما يفكر بافتتاح سينما يجب أن يكون فيلم الافتتاح من إنتاجه.
ما قلته هو جزء قليل وقليل من ذكريات هذا الزمن الجميل الذي رحل وأخذ معه تلك الرجالات وتلك الأيام التي لن تعود، ووعلى الرغم من افتتاح صالات حديثة ومكلفة وذات طابع حضاري في أيامنا هذه، لكنها تفتقد لشيء مهم وأساسي في العلاقة بين دار العرض السينمائية والمتلقي، هذا الشيء هو تلك الحميمية، فلا يمكن أن يدخل أو يسكن شيء في وجداننا وذكراتنا بدون حميمية