2012/07/04
سونيا سفر – بلدنا
مادام على هذه الأرض فاشيّون وحروب فلابدَّ للمسرح من أن يبقى قادراً على خوض المعركة
زيناتي قدسية: من كان الله معه لايمكن أن يشعر بأيِّ خسارة..
بعد أحداث نكسة 67، اتَّجهت أغلب العروض المسرحية إلى الحديث عن نكسة فتحت للفلسطيني باب المعاناة من أوسعه.. هذه المعاناة الروحية دفعت الفلسطيني زيناتي قدسية، ابن مدينة «إجزم»، إلى طرق باب المسرح، والوقوف على خشبته، لعلّه يُسمِع صوته لكلِّ الناس.. في سورية، كان أول من تعرَّف إليه قدسية هو الراحل ممدوح عدوان،
حيث شعر من خلال معرفته به بأنَّ المسرح ليس كما يذكر.. شارك قدسية في تأسيس المسرح مع سعد الله ونوس، وأسهم في مسرح الهواة والمسرح العمالي ومسرح الشبيبة، وعمل مع ممدوح عدوان في المونودراما. ورغم كلِّ ذلك، يعتبر قدسية: «ليس هناك أكبر من كارثة أن يمضي عمر كامل وتنظر خلفك وتجد كأنك لم تفعل شيئاً».. مازال ابن «إجزم» يحتفظ بصورة فلسطين في مخيلته، ومازال يسعى إلى أن يجعل من خشبة المسرح امتداداً لحلم الفلسطيني وألمه، بل وفرح وحزن كلِّ إنسان عربي، فالمسرح كما يراه قدسية لايجب أن يُقسم بحسب الدول، كما قسمت «سايكس بيكو» عالمنا العربي.. «بلدنا» التقت الفنان زيناتي قدسية، وكان لها معه الحوار التالي:
¶ قلت مرة: «من الأفضل أن أبقى في شرنقتي، أتحدَّث إلى طفل على يديّ أمه والقصف وراء والديه.. طفل لم يرَ سوى أرضٍ محروقة وشجر مكسّر يشبه السكاكين، وأقدام مجرحة من كثرة الصعود..».. لماذا، وهل فعلاً مازلت في شرنقتك؟
هكذا كان الخروج من الجنة.. من فلسطين.. من «إجزم».. هذا ما حكته لي أمي، وهذا ما أكَّدته لي كلُّ الأمهات والجدّات اللواتي عايشتهن في سنوات يفاعتي.. هذا ما رأيته وترسَّخ في ذاكرتي البصريّة.. وعلى مدى كلِّ سنوات العمر كنتُ أحاول إخراج هذه المشاهد الدامية من ذاكرتي واستبدال مشاهد أجمل بها، لكنني لم أستطع. ولاأظنُّ أنَّ كلَّ عمليات الكَيّ قادرة على إخراجها أو استبدالها..
وحين تحدَّثت عن الشرنقة، لم أكن أقصدها بمعناها وطبيعتها تماماً.. ولو كان الأمر كذلك لما فعلت شيئاً طوال حياتي.. إنما شرنقتي هي التي كانت ومازالت تشكّل درعاً وحماية لي من التلوُّث الذي حدث ويحدث في مسيرة نضالنا الوطني الفلسطيني..
أحبُّ «إِجزم»، التي حكى لي عنها والديّ.. «إجزم» التي كنت أراها ساكنة في حدقات عيونهم.. وبعد انطفاء عيونهم سكنت في حدقات عيوني.. إجزم- فلسطين.. فلسطين الممتدَّة من مطلع الشمس إلى مغيبها.. هذه فلسطين التي أحبُّها وأغنِّي لها.. وليست «فلسطينهم» الإعلامية.. لذلك أنا أحبُّ شرنقتي بهذا المعنى.. من هذه النظافة، من هذه النصاعة في الرؤية والموقف أحبُّ أن يخرج صوتي.
¶ بعد أول مسرحية شاركت فيها (متى تضاء الشموع) قلت بأنك لن تمثل ثانية . لماذا ؟ ومالذي دفعك لأن تشارك في أعمال أخرى حتى كدت لاتغادر خشبة المسرح التي قدمت لها الكثير؟
قلت ذلك لأنني وجدت الأمر في غاية الصعوبة.. فقد كنت أرسم منفرداً، دون رقابة مباشرة على ما أفعل، وبالتالي كنت أملك مساحة من الحرية تجعلني أتوقَّف عن الرسم أو أواصل.. أطوي الأوراق أو أمزِّق اللوحة.. في المسرح، اختلف الأمر.. فالعملية برمّتها يجب أن تتمَّ أمام الجميع، ومن هنا أصبت بذلك الرعب الذي اجتاحني في الوقفة الأولى.
لاحقاً، اكتشفت أنَّ أهمية هذا الإبداع (المسرح) تكمن في هذه اللحظات الشجاعة والاستثنائية؛ وأنتِ تعيدين صياغة نفْس بشرية متكاملة أمام متفرِّجين يراقبون هذه العملية بدقة متناهية.. هذا الالتحام المباشر والحار مع الناس، كنت أفتقده وأنا أرسم.. فأصررت على الاستمرار.. وكان ما كان.
¶ كيف كانت علاقتك بالراحل ممدوح عدوان؟
كانت علاقة مميَّزة ومحترمة جداً على مستوى الشغل المسرحي، أثمرت شراكة إبداعية، أنتجت تياراً مسرحياً في المشرق العربي، إن لم نقل في العالم العربي. وأقصد تيار «المونودراما»، إضافة إلى اشتراكي في معظم نصوصه المسرحية ممثلاً، وبعض نصوصه الأخرى التي قمت بإخراجها.
كانت مرحلة في غاية الأهميّة.. حفرنا طوال سنواتها الأساس المتين لبناء التجربة العامة.. وهذا ينطبق على تجربتي مع الراحلين سعد الله ونوس وفواز الساجر في المسرح التجريبي وخارجه. صحيح أنَّ الثلاثة غادروا هذه الحياة- رحمهم الله- لكن معمار التجربة مازال قائماً كما تعلمين، وهذا بفضل الأساسات القوية التي لاتزال تشكِّل الحوامل الحقيقية لتجربتنا معاً.
¶شاركت في تأسيس المسرح التجريبي مع سعد الله ونوس وفواز الساجر، وكنت أحد أركان المسرح الوطني الفلسطيني في سورية، وغيره الكثير، وكلّ هذا من أجل المسرح. بعد كلِّ هذا التعب، هل ترى أنَّ المسرح السوري في المستوى الذي كنت تتمنَّاه، وما الذي كنت تطمح إليه؟
نشاطي في المسرح، وعلى تنوّع المواقع، لم يكن الهدف منه المسرح في سورية فقط، بل كنت أطمح إلى أن تمتدَّ تجربتنا المسرحية من دمشق حتى آخر نقطة في عالمنا العربي.. هكذا كنّا في المسرح الوطني الفلسطيني، والمسرح التجريبي والقومي والعمالي.. التجربة كانت مفتوحة على الطموح، ولاتُعنى بالشأن السوري فقط.. ولكي لاأبدو متهرِّباً من الإجابة عن سؤالك أقول: لا بالطبع، لم يصل المسرح في سورية إلى المستوى الذي كنّا ومازلنا نتمنَّاه. صحيح أنه قطع أشواطاً بعيدة في السنوات الأربعين الماضية إلى اليوم، وشكَّل منارة للتجربة المسرحية العربية من خلال نشاطه الدائم ومهرجاناته التاريخية المشهودة، لكن العقبات التي وقفت في طريقه أكثر من أن تُحصى في أكثر من عقد ومحطة. لكن، على الرغم من كلِّ شيء لايزال المسرح في سورية يقف على قدميه، في الوقت الذي فقد فيه الكثيرون مواطئ أقدامهم، بل أقدامهم أيضاً.. يقف المسرح في سورية مصمِّماً على مواصلة الطريق، على الرغم من أنه شاق ووعر. أما ما كنتُ أطمح إليه، فهذا بوح طويل، وسيكون موضوع كتابي الجديد الذي سيُنشر بعد أشهر قليلة.
¶ هل تجربتك في المسرح هي تجربة جماعية؛ أقصد المعاناة في صناعة مسرح سوري؟
أتمنَّى أن تحذفي من حديثك كلمة «المسرح السوري»، فهذا تعبير خاطئ. وينبغي أن نتجنَّبه نهائياً من قاموس حديثنا عن المسرح. وهذا التمنِّي ليس لك فقط بل لكلِّ المشتغلين في المسرح، صناعة ونقداً، في كلِّ العالم العربي.
يكفي أن أذكر أنَّ «سايكس بيكو» لم تكن مشروعاً استعمارياً على المستوى الجغرافي والسياسي فقط.
في ما يخصُّ جماعية التجربة أقول: نعم.. كانت تجربتي في المسرح ومازالت جماعية، دون أدنى شكّ، ولكن بمعنى الجماعيّة التي أفهمها أنا. وليست الجماعية التي روَّج لها لفيف من المخرجين منذ منتصف السبعينات، ومازال بعضهم متمسِّكاً بهذا الوهم حتى الآن.. شعار يبدو برَّاقاً من الخارج: «المسرح عمل جماعي»!.. رداء جميل موشّى بأنغام ديمقراطية محبَّبة وجذابة، لكنه في حقيقة الأمر-عندهم- ينطوي على ممارسة دكتاتورية أشّد فتكاً.. استثمروا جاذبية هذا الشعار «ليتسيّدوا» (المخرج سيد العرض المسرحي!!).. راهنوا على مجموعات كبيرة من المشتغلين في حقل التمثيل، الذين أغوتهم هذه الجاذبية. فحوَّلوا هذا المفهوم الجميل إلى إقطاعيات هم أسيادها، وتحوَّل الممثلون والفنيون إلى قطيع من العبيد والخدم لهؤلاء المخرجين.
ضحايا هذه الممارسة اللاإنسانية أكثر من أن تعدّ.. لست رجلاً عابراً في التجربة، أنا ابنها حتى النخاع، وشاهد على عصر بأكمله.. وكنت مرشَّحاً لأتحوَّل إلى ضحية لهذا النوع من «الجماعية» المقيتة في وقت من الأوقات.. تجربتي في المسرح كانت جماعية ومازالت جماعية، بالمعنى النقيض لدكتاتورية هذا الشعار. حتى في «المونودراما»، وفي عروضها العشرة، كان تصنيعها جماعياً بامتياز.
¶ أسهمت، إلى جانب ممدوح عدوان، في حضور «المونودراما» إلى المسرح. هل هناك مَن أساء في رأيك؟
المجاملة في هذا الإطار أكثر ضرراً من الكذب نفسه؛ الكذب على الذات والآخر.. نعم، هناك بعضهم، أقول بعضهم، ممن أساؤوا إلى «المونودراما».. أساؤوا إليها بالمعنى والمبنى (كتابة). وأساؤوا إليها إخراجاً وتمثيلاً. وأساؤوا إليها متابعة وتأريخاً ونقداً.. هناك كمّ كبير من «المونودرامات» التي تكتب وتنشر وتعرض على المسارح في العالم العربي، وفي سورية أيضاً، لاتحمل أيَّ قيمة إبداعية حقيقية. مجرد صرخات وتشنُّجات مزعجة في فضاءات أكثر إزعاجاً .
أنا من المتابعين للنشاط المسرحي في سورية والعالم العربي، و«المونودراما» منه على وجه الخصوص، وأستطيع أن أوجز ملاحظاتي في ما يلي:
هم بلا أدنى ريب أنصاف موهوبين، وأرباع موهوبين، وعديمو موهبة.. متخمون بالدونية، وأسرى نزاعات غريبة يصعب تصنيفها.. تتاح لأحدهم الفرصة لتقديم مهزلة أو مهزلتين، ثم يمضي إلى غير رجعة، دون أن يفكِّر ولو للحظات في ما أحدثه من إساءة وإفساد للذائقة الجمالية والفكرية.. ولسان حالهم يقول: «ليست المونودراما امتيازاً لفلان أو علان.. نحن هنا أيضاً!، وهي عملية سهلة ولاتحتاج إلى كلِّ هذا الضجيج».. ويقدِّم هؤلاء عرضاً مملاً، وتحدث المهزلة، ويرتفع منسوب الإساءة والإفساد بانضمام جوقة المطّبلين والمزمّرين إلى هؤلاء «البعض»، أقصد الذين يكتبون لهم، والذين يكتبون عنهم. ولايتوقَّف الأمر عند هذا الحد، بل يصل إلى حدود الكارثة الأدبية التاريخية، عندما ينزلق الباحث أو المؤرِّخ، فيعتمد مثل هذه الكتابات المريضة عن هذا «البعض» الأكثر مرضاً، ويحشرها في «مُؤَرَّخِه»، دون أن يكلِّف نفسه عناء البحث والتقصِّي، وفرز المزيَّف عن الحقيقي، ويضع بين يدي الجيل الحاضر والقادم تاريخاً أقل ما يقال عنه إنه مخجل ويندى له الجبين.. تمنَّيت أن أقرأ لناقد يتحدَّث عن هذا الموضوع تحديداً، ويسمِّي الأشياء بأسمائها بجرأة وشفافية وصراحة، دفاعاً عن الحقيقة وصيانة لكرامتها التاريخية.. إذ لايكفي أن يتحدَّث الكاتب أو الناقد عن «المونودراما» كنوع مسرحي، يحبِّذه أو لا يحبذه، ثم يسوق أسبابه.
¶إلى أيِّ مدى تبدو الأسئلة المطروحة في العرض المسرحي الأخير الذي قدَّمته «طبق الأصل» قريبة من الواقع الآن؟، وهل جاء العرض ليطابق صورة الواقع أم لمطابقة الصور في تلك الأزمنة؟
التاريخ هو التاريخ.. أمّا الفن، فهو شيء آخر. وقد أصبح بحكم المؤكّد «خبرة، وتجربة إنسانية».. إنَّ ما يعنينا في الدراما ليس إعادة إنتاج مُكرّر لهذا التاريخ القابع في بطون الكتب. كلُّ انتقاء من التاريخ لاستخدامه في «الدراما» لايساوي شيئاً إذا لم يتشابك هذا الانتقاء ويتفاعل مع البرهة التاريخية الراهنة.
في عرض «طبق الأصل»- وهنا أتحدَّث بصفتي ممثلاً في هذا العرض فقط- أقول إنَّ هناك انتقاء لثلاث لوحات فقط من أربعة نصوص كاملة كتبها الدكتور سلطان القاسمي. هذه اللوحات تتحدَّث عن سقوط ثلاث حواضر (مدن) عربية مهمة في تواريخ محددة: القدس، بغداد، غرناطة.. هذا السقوط الذي حدث نتيجة مجموعة من العوامل، على رأسها عاملان أساسيان: عامل الخيانة والمساومة والمكاسب الشخصية على المستوى الداخلي، وعامل الجبروت العسكري القادم من الخارج.. هذا ما حدث تاريخياً، دون تأويل أو ترميز أو إيحاء.. نأتي الآن إلى الواقع الذي عشناه ونعيشه.. نصف القدس سقط في أيدي الصهاينة في العام 1948، وأطلقوا عليه «القدس الغربية!»، ثم سقطت القدس بالكامل عام 1967.. بيروت، عاصمة لبنان العربي، سقطت في يد الصهاينة 1982,. بغداد سقطت في العام 2003 بين الآلة الحربية الأمريكية ودول التحالف.. لو خلعنا التسعمئة عام التي تفصل بين هذه الأحداث وتلك، في تقديرك، ما الذي تغيّر، وما الذي سيتغيَّر؟.. هناك تبديل بسيط؛ بدل المنجنيق صار هناك صاروخ «توماهوك»، وبدل المستظهر بالله وابن العلقمي وغيرهما، اختاري من تشائين من ملوك وأمراء وقادة حكموا ويحكمون هذه الأمة، أيضاً باسم الله، منذ مئة عام وإلى الآن.. وانظري إلى حال دولنا العربية وعواصمنا، ماذا حلَّ بها الآن.. قومي بهذه العملية والمقارنة البسيطة، وقولي لي، متى ينتهي الماضي ويبدأ الحاضر؟.. أعتقد أنه كذلك.. قد نصحو غداً ونشاهد على شاشات التلفزيون احتفالاً مهيباً للمستظهرين بالله، والمستعلين بالله وذويهم وأفراد حاشيتهم وإخوتهم الأجانب وأصدقائهم العرب، وهم يتبادلون الأنخاب على حطام المسجد الأقصى، مشفوعة بتقديم التهاني لملوك ورؤساء الدولة اليهودية «طبق الأصل».. لم تحدث في الماضي فحسب، ولاهي مجرد مقاربة للواقع، إنها تحدث الآن في واقعنا الذي نعيش، وبمشاهد تفقأ العين.
¶ ما الذي أردت قوله في «طبق الأصل»؟
في عرض «طبق الصل» أنا ممثل أعمل ضمن مجموعة من الممثلين؛ أي أنني لاأنفرد بقول خاص بي- بالمعنى الشخصي- فنحن جميعاً في هذا العرض لنا قول واحد وصوت واحد.. وبهذا المعنى أقول، لاخيار أمامنا إلا مواجهة الأعداء بكلِّ الوسائل الممكنة، وبكلِّ ما نملك، فإما أن نكون.. وإما نكون..
¶محمود درويش لم يقل هكذا، ولا شكسبير قبل ستمئة عام، بل قال: نكون أو لانكون؟
نعم، هكذا لفظها «هاملت»، وكذلك محمود، لكنها في المعنى الجوهري والفلسفي لـ«إرادة» تنطوي على حذف حرف «لا»، حتى لو كان الموت هو المصير المترتِّب على هذه المواجهة، ففي الموت البطولي «يكون».. وأمام بطولة الموت، يدرك العدو في صميم روحه أنه المهزوم، رغم صورة انتصاره المؤقت.. «هاملت» اختار وفعلها، فـ«كان» هاملت، ولايزال، وسيبقى، هذا في الفن.. أما في الواقع، فقد اختار يوسف العظمة وفعلها، فـ«كان»، ولايزال، وسيبقى يوسف العظمة.
¶هي دعوة إذاً إلى مسرح مقاوم
لا أدري إن كان العرض يوحي بذلك..
¶كان هناك في مراحل سابقة ما سمِّي: الشعر المقاوم، سينما المقاومة، الأدب المقاوم، الخ..
صحيح.. لكنني لاأميل إلى حشر الإبداع على اختلاف أنواعه ضمن تسميات وعناوين قد تكون مناسبة في مرحلة، ثم تضيق بعد ذلك؛ أي بعد انتهاء المرحلة.. على كلِّ حال، المسرح بطبيعته مقاوم، ولايمكن أن يكون إلا كذلك..
المسرح في أبرز معالم الثقافة في الحضارة الإنسانية، ومن أهم المنابر الشعبية وأكثرها حيوية. وإذا كان للثقافة برلمان، فالمسرح هو برلمانها بامتياز. والمسرح المقاوم أو مسرح المقاومة وُجِد منذ أن وُجِد المسرح في بلاد نشأته الأولى. كان مقاوماً، وقدَّم العديد من العروض المسرحية المقاوِمة بمعناها الحرفي..
ما دام على هذه الأرض جيوش وفاشيون ودكتاتوريون وحروب ونزاعات، ثنائية وكونية، فإنَّ المسرح لابدَّ من أن يبقى بطبيعته متوافراً حياً، وقادراً على خوض المعركة، والدفاع عن حرية الشعوب.. من جانب آخر، ليس شرطاً أن تتعرَّض الشعوب إلى احتلال أو غزو عسكري لتُنشئ مسرحاً مقاوماً، ففي فترات السلم العالمي، تبدو حاجتنا إلى مسرح يقاوم حاجة ماسة، لأنَّ هذا الهدوء والاستقرار الظاهري والاسترخاء المريب، تختفي وراءها نُذُر الحروب المدمِّرة والتفجيرات المباغتة.
وما سعيُ الدول المحموم إلى امتلاك الأسلحة والصراع المعلن والخفي على حيازة أكثرها تحت مسمَّى التوازن الاستراتيجي للقوى، وفي فترات الشعور الواهم بالسلم العالمي، إلا تهيئة واستعداداً لهذه الحروب والتفجيرات، ولذلك فإنَّ المفكرين والمثقفين والفنانين في مختلف أنحاء العالم حين ينتصرون للإنسان، من أجل حريته وكرامته الإنسانية وحقه في إبداء الرأي والدفاع عن حقه في المواطنة والوجود، إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى ثقافة المقاومة.. علوم المقاومة، فكر المقاومة، شعرها، مسرحها، وإن لم يضعوا إنجازاتهم العلمية والإبداعية مباشرة تحت هذا العنوان.
المسرح ليس وليد الأزمات الطارئة. إنه في قلب الحياة، وفي كلِّ تفاصيل أحداثها.. المهم كيف نحافظ على هذا القلب متدفِّقاً حاراً.
¶ لطالما كان للأحداث العربية والفلسطينية انعكاسها عليك كإنسان..
طبعاً.. أكيد.
¶ولابدَّ من أنَّ تأثير هذه الأحداث قد عكس نفسه عليك بصفتك فناناً أيضاً، من خلال إعلانك موقفاً ورأياً محدّدين؟
بكلّ تأكيد.. جميع أعمالي هي تجليات لهذه الأحداث.. أنا في قلبها تماماً، ولاأستطيع فصل نفسي، إنساناً وفناناً، عن محيطها الذي أعيش فيه، ومن الطبيعي أن يكون لي رأي وموقف مما يحدث، وقد علَّمتني التجربة أنَّ إبداء الرأي وتحديد الموقف من خلال العمل الذي أمارسه أفضل بكثير من التنظير المملّ والحوارات المتكرّرة والطويلة، على حساب الوقت والعمل الإنجاز.. يقولون: قل لي مَن تُصادق أقُل لك من أنت.. وأنا أقول- كواحد من المشتغلين في حقل المسرح والفن والثقافة عموماً: أرِني ماذا تقدّم، أقل لك من أنت.
¶ هل تحبُّ أن تقول شيئاً في الختام؟
نعم بالتأكيد.. أنا أعرف تماماً أنَّ الله يرعاني ويحميني ويراني، ومن كان الله معه لايمكن أن يشعر بأيِّ خسارة.
لست مؤسسة تعتمد هذا وتقصي ذاك
¶ هل استغنيت فعلاً عن المخرجين في «المونودراما»، ولماذا؟
لست مؤسسة تعتمد هذا وتقصي ذاك.. ثم إنني أحترم كلَّ المخرجين المبدعين.. وعملت ممثلاً تحت إدارة معظمهم.. ولكن في «المونودراما» المسألة متعلِّقة بكيانية وخصوصية المشروع والخيار الذي أخذته على عاتقي، وليس انتقاصاً من القيمة الإبداعية لأحد.. أؤكِّد مرة أخرى، أنني لاأعمل بمفردي.. هناك أكثر من مخرج يساعدني في «المونودراما». هم ليسوا مخرجين بالمعنى الأكاديمي للكلمة، ولكنهم ذوو تجربة وخبرات عالية في مجال المسرح والفنون الأخرى.. هم رفاق درب، وشركاء تجربة، وأصدقاء عمر.
«قد» تكون لهجتي الفلسطينية عائقاً !!
¶تحضِّر لعمل مسرحي جديد يحمل عنوان «تقاسيم على دروب الآلام» أو «تقاسيم على الجلجلة». هل يتقاطع مع «أبو شنار»؟
يلتقيان في الهدف الكبير، ولكن لكلّ عمل موضوعاً وأسلوباً فنياً وزاوية نظر أخرى، فأبو شنار «مونودراما»، بخلاف العمل الجديد.
ومن المبكّر أن نخوض في تفاصيله، لكن العنوان يأخذنا مباشرة إلى القدس، والمعاناة مع الاحتلال، ولكن بتقاسيم مختلفة ومقامات أكاد أجزم أنها غير مألوفة.
¶ لِمَ أنت غائب عن التلفزيون؟
لست غائباً تماماً، كلَّ عام أشارك في عمل أو عملين.. هناك بعض المخرجين الذين يعتقدون أنني مازلت صالحاً للعمل أمام كاميرا التلفزيون، ولاأدري إلى متى سيظلُّون على هذا الاعتقاد.
¶ أقصد الأعمال التي تناولت المسألة الفلسطينية، وباللهجة الفلسطينية على مدى عشرين عاماً، والقائمة طويلة. أين زيناتي قدسية من هذه الأعمال؟
أول مرة أُسأل مثل هذا السؤال إعلامياً.. على كلِّ حال، أنا أسأل نفسي هذا السؤال في بعض الأحيان، وكلُّ إجاباتي تكون مسبوقة بـ«قد» أو «ربما» أو «يمكن»؛ يعني كلها مجرد احتمالات قد تصيب وقد تخطئ.
¶قل لي بعضاً من هذه الاحتمالات
مثل «قد» لا أكون صالحاً لمثل هذه الأعمال.. أو «ربما» يقولون إنني «زلمة» مسرح ولا أجيد العمل أمام كاميرا التلفزيون.. أو «يمكن» قد تكون موهبتي ضئيلة أو معدومة ولاتؤهِّلني إلى حمل دور من هذه الأدوار.. أو «قد» تكون لهجتي الفلسطينية عائقاً.. ، وأحياناً أذهب أبعد من ذلك، فقد يكون السبب أنَّ طولي أو قصري لايتناسب مع هذه الشخصية أو تلك، أو أنني غريب عن هذه المناخات وبالتالي لاأستطيع التكيّف معها، فـ«يتبهدل» المخرج ويخسر المنتج.. أو «ربما» لاتتوافر لديّ «الكاريزما» التي ينبغي أن تتوافر في الممثل المشارك في هذه الأعمال.. وقد يكون وعيي الفكري والثقافي والتاريخي معدوماً بالنسبة إلى القضية المطروحة في المسلسل، وبالتالي سأبدو جاهلاً وأحرج الذي اختارني!، و«قد» يراني بعضهم انعزالياً ولاأجيد تشكيل علاقات اجتماعية أو فنية للتأكيد على حضوري!، و«ربما» المسألة برمتها لاتتعدَّى مسألة العتب على الذاكرة!. يعني تطول قائمة الاحتمالات، ولكن الإجابة الشافية ليست عندي بكلِّ تأكيد..