2012/07/04
تشرين
خطايـا الـزمن المغلـوط
وفق المنطق الحكاية- الحكواتي، إن صح التعبير، كانت الأحداث فيما عرف بمسلسلات البيئة الشامية تدور ضمن فضاءات مكانية محددة، واضحة المعالم الجغرافية، في حدودها الدنيا كانت محصورة بالحارة وفضاءاتها العمرانية (مكتب الزعيم- الحمام_ دكاكين، بيوت..) كما كان الحال في «أيام شامية»،
وفي حالات أخرى كانت الأحداث الرئيسة تجري في الحارة وفضاءاتها العمرانية، ولكنها تمتد في أحداث ثانوية إلى خارجها ولكن وعلى نحو محدود، ففي مسلسل «ليالي الصالحية» امتدت الأحداث الثانوية نحو مزرعة المحرز، و«حظيرة الخراف» الخاصة بالمعلم عمر وبشكل أقل إلى سوق الخراف أو الخان.. وفي مسلسل «الخوالي» امتدت الأحداث نحو «مغارة الثوار» و«المقبرة» ومكاتب السلطات العثمانية، وبالمثل كان حال «أهل الراية» الذي امتدت حكاياته نحو الغوطة.. وغيرها، لكن الأحداث الرئيسة ظلت تدور في فضاء الحارة الواحدة، حتى عندما صارت الحارة الواحدة أربع حارات في الأجزاء الأخيرة لمسلسل «باب الحارة» ظلت «حارة الضبع» هي الفضاء المكاني الوحيد الذي يستوعب الحدث الرئيس كاملاً، بل يجذب خيوط الأحداث المتعلقة بشخصيات الحارات الأخرى إليه.
مسألة حصر الأحداث كاملة ضمن فضاء محدد ومعزول أحياناً عن محيطه الجغرافي ليس بجديد، ولعلنا نتذكر جميعاً كيف استوعب الحمام في مسلسل «حمام الهنا» كل مقالب غوار الطوشة بحسني البورظان وأبو صياح وعبدو، وكيف كان فندق صح النوم وفضاءات الحارة حوله مكاناً وحيداً ومعزولاً عن محيطه لأحداث جزأين من مسلسل «صح النوم»... بالتالي لا يمكن عد دوران أحداث المسلسل ضمن فضاء مكاني معزول عن محيطه الجغرافي عيباً في المسلسلات الشامية، ولنتذكر معاً أن مسلسل «أيام شامية» مثلاً لم يثر حفيظة أحد من النقاد حول انعزالية المكان عن محيطه الجغرافي، ولم يدفع أياً منا لسؤال صناع العمل عن غياب أو تغييب شريحة من شرائح من المجتمع.. فمنطق الأحداث في هذا المسلسل لم يكن ليستدعي أسئلة من هذا القبيل.. وحتى وجود ثلاثة من رجال الدرك العثماني ضمن نسيج العمل ومقتلهم على أيدي رجال الحارة كان جزءاً من حكاية فردية لم تصل حد أن تكون حدثاً عاماً كما حصل في حصار حارة الضبع في «باب الحارة»، لنعود إلى كتب التاريخ ونبحث عنه أو نسأل عن مشروعية وجوده..؟
العيب في انعزال الفضاء المكاني لأحداث هذه المسلسلات عن محيطه الجغرافي بدأ يظهر عندما بدأت تمتد خيوط تلك الأحداث افتراضياً باتجاه وقائع وحوادث لا يمكن قبول افتراضيتها كونه يعاكس الزمن العام الذي توحي به أجواء العمل من ملابس وديكور وحوارت.. وبالتالي كان من الطبيعي أن تتم إحالة أحداث تلك المسلسلات إلى مرجعيتها الزمنية المحددة، ومساءلتها عن كل ما يرتبط بتلك المراحل التاريخية، فدخول القوات الفرنسية على سبيل المثال في أحداث مسلسل «باب الحارة» طرح تساؤلاً عن شكل دور المرأة في الأحداث، وبالتالي خرج من انتقد طبيعة هذا الظهور والذي يناقض كلياً ما كانت عليه المرأة السورية في تلك الفترة، وبالمثل كان السؤال عن الطبقة المثقفة والمتعلمة في تلك المرحلة وغيابها أو تغييبها عن أحداث المسلسل.. وبالطبع كان صعباً على أحدنا أن يقبل استحضار جانب من تاريخ مرحلة معينة وإبقاء جوانب أخرى من مراحل زمنية أخرى، ثم الجمع بينها على أن تلك هي صورة حياة جرت في دمشق..!!
مشكلة الفضاء المكاني المعزول للأحداث أو امتداده نحو فضاءات مكانية أخرى لم تظهر في مسلسلات «الحصرم الشامي» أو «حسيبة» أو حتى في «اولاد القيميرية» و«الزعيم».. كون التحديد الزماني والمكاني للأحداث كان محسوماً وواضحاً منذ البداية وبالتالي خضع كلاهما لشروط المرحلة المحددة، وراعى متطلباتها فلم يأت أي جزء منه نافراً... إلا أن المعالجة المثلى للفضاء المكاني والزماني كانت في مسلسل «طالع الفضة»، مع التحديد الزماني والمكاني لحكاية العمل (نهاية الدولة العثمانية، وحرب الترعة التي تخوضها السلطنة العثمانية)، وتقديم شخصية تاريخية معروفة مثل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر... وما رافقها من صراع مع الاحتلال العثماني... فضلاً عن المعالم الواضحة لتلك الفترة، حيث لا سيادة للزي الشامي التقليدي، وإنما تنوع يتبع المرجعيات الاجتماعية والعلمية للسكان، ولا انكفاء مطلق للمرأة في بيتها، ولا لون واحد للنسيج الاجتماعي المكون للحارة، حيث نجد في هذا الحي المسلم إلى جانب المسيحي واليهودي، وهؤلاء جزء من الحكاية وليسوا جانباً فلكلورياً فيها... وعند هذا الحد ينتهي تحدي الصورة النمطية بالتعامل مع الفضاء المكاني، بل شكل التلقي.. فلم يعد المشاهد مشغولاً بالبحث في تناقض المنطق الزمني لتفاصيل حكاية العمل، وإنما استسلم بشكل كامل لصيرورتها.
بدوره سينجح مسلسل «الزعيم» في النأي بنفسه من محاكمة المكان والزمان.. بتقديم حكاية أقل تحرراً من الوثيقة التاريخية، من دون إهمالها، وأقرب إلى احترام مفردات المكان والزمان، بل والأقرب إلى روح مسلسل «أيام شامية» الذي رسم الملامح الجماهيرية لما عرف بالدراما البيئة الشامية التي رسمت ملامحها، ويبدو أن كاتب العمل وفيق الزعيم حاول في كتابته لهذا المسلسل أن يستفيد من ملاحظات الكثيرين حول الأعمال الشامية فتوخى إبراز تفاصيل صغيرة من شأنها ترسيخ ملامح الزمان والمكان ببساطة، وذلك من خلال إبراز أبسط الأشياء كنوع العملة المستخدمة في تلك الأيام إلى نوعية (الأكلة) المستهلكة في ذلك الوقت وما إلى ذلك.. فضلاً عن التنوع الثقافي والاجتماعي لشخصيات العمل.
المثير أن التخوف من مساءلة شروط المرحلة ومتطلباتها بات عقدة يخشاها كتاب ما عرف بدراما البيئة الشامية، عقدة بلغت حداً صارت فيه واحدة من أشهر العبارات التي تكاد لا تغيب عن أي من تصريحات هؤلاء الكتاب هي أن مسلسلهم يحترم طبيعة المكان والفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث الحكاية.. وتتكرر تلك الملاحظة على نحو يبدو كما لو أن إهمال ما تقتضيه الفترة الزمنية وتجاهل المكان كانا المشكلة الوحيدة التي عانت منها مسلسلات البيئة الشامية... في وقت يبدو الزمن الغائم أو الزمن المهمل للأحداث ليس أكثر من مشكلة طفت على السطح لا أكثر، في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن تلك المسلسلات غادرت منطقها الحكائي، فإن كان التحديد الزماني والمكاني لأحداث عدد من المسلسلات قد نأى بها من مساءلة شروط المرحلة ومتطلباتها، فإن حكاية محكمة مشغولة بالناس تدور حول نفسها في تلك المسلسلات عن شأنها أن تعفي المسلسل الشامي من تلك المساءلة السابقة، تماماً كما حدث في السابق في مسلسلات «صح النوم» و«حمام الهنا»، وعاد ليحدث تالياً في مسلسلات «أيام شامية» و«ليالي الصالحية».
من كتاب «سيناريو دراما «البيئة الشامية»
تأليف ماهر منصور – قيد الطبع