2012/07/04
مارلين سلوم - دار الخليج
كم كان الأمس راقياً بكل ما فيه، وكم كانت الألسن “طاهرة” مثقلة بعبارات الاعتذار والعفو والاستئذان، ومكللة بالامتنان والشكر والمجاملة اللبقة . حتى الصراحة كانت تخرج من الأفواه منمقة تخاف أن تجرح . ربما كان الصمت زائداً عن حده خصوصاً في أحياء الفقراء، وكان من الممكن أن يودي بحياة بعضهم إلى القبر قبل أن يتجرأ بالصراخ .
طبعاً نحن أهل اليوم نقول إنه من الأفضل قول الحقائق بلا مواربة، وإيصال صوت “الآه” المتألمة والمجروحة إلى الأعلى، كي لا يبقى المظلوم مظلوماً والمستبد مستبداً والحاكم متجبراً . لكن إلى أين قادتنا هذه “الحقيقة” وهذا الصوت العالي؟ لقد علمتنا الأيام والأحداث كيف نصرخ ونتحدى ونتجرأ، لكنها للأسف نسيت أن تعلمنا كيف نستخدم اللجام كي نلجم مشاعرنا و”نفرمل” غضبنا قبل أن نقفز فوق أخلاقنا وحدود حريتنا ومجتمعنا، فنهين إنسانيتنا ونستبيح كرامتنا، ونغرق في بحر من الفوضى .
انظروا ما الذي يحصل من حولنا في الشوارع “الأرضية” و”الشوارع الفضائية” . أليست معظم القنوات الآن مجموعة شوارع يلهث فيها الناس كل خلف مصالحه، والكل يتكلم وينادي، والكل يبيع ويفاصل ويشتري؟ قبل أشهر أو عام كنا نقول إن الفضائيات تنقل أحداث الشوارع أولاً بأول، وأصبحت مرآة لها، لكن يبدو أن المرآة تكسرت وأصبح الشارع والشاشة شيئاً واحداً، والناس لا يميزون بين هذا وتلك . غضب هنا وهناك، وتحريض في كل الأماكن، وشتائم وحرائق، وحتى البلطجية والمعروفين أيضاً ب “الشبّيحة” أصبحوا أسياد الشوارع، ووصلوا إلى التلفزيون ليس بأجسادهم وإنما بأفعالهم، وباتت لغتهم حاضرة في معظم البرامج الحوارية .
الصورة مشوّشة وعقولنا مثلها . من البلطجي ومن العاقل الآدمي؟ من يحرق البلدان ومن يقبض الثمن ويحرض، ومن يتفرج، ومن يغسل يديه من تلك الدماء العربية البريئة؟ من الأمي المأجور، ومن السياسي الأمين؟ من القاتل ومن المقتول؟
الصورة مشوّشة والإعلام لسنا ندري إن كان مشوشاً أو أنه مُوَجه عمداً لينقل إلينا هذه الفوضى والانحطاط والانقسام فيزيدنا تشتتاً وغضباً وإحباطاً وتفككاً . وكأن الأيدي الخفية التي تلعب بمصائر الدول تريد لشعوبها أن تتلهى بلعبة الإعلام فتنشغل عن التفكير بهدوء وعمق لفهم مسار الأحداث واتخاذ القرارات المناسبة . يريدون للثائرين أن يزدادوا ثورة، وللرافضين لهم أن يزدادوا رفضاً فينقلبوا عليهم جارفين معهم كثيراً ممن كانوا
يقفون إلى جانب الثورة، فتتحقق “الثورة المضادة” وتعم الفوضى وتغرق الأوطان بدماء شهدائها . حتى بعض الإعلاميين المعروفين يستغل كرسيه وشاشته ليمارس دوره في تأجيج الشارع لمصلحة أنظمة معينة .
ارجعوا إلى الخلف قليلاً لتتأملوا المشهد بشكل أوضح، بلا عصبية ولا تحيّز . لماذا تخلى أهل السياسة (معظمهم) عن دبلوماسيتهم وتحولوا إلى “بلطجية” على الهواء؟ كم خناقة شاهدنا خلال الأشهر الأخيرة في البرامج الحوارية وكان آخرها في “الاتجاه المعاكس” بين الباحث اللبناني جوزف أبو فاضل والسوري محيي الدين اللاذقاني، وانتهت بسيل من الشتائم الثقيلة بين الطرفين وضرب بالأيدي؟ وقبلها معركة كلامية لم نتخيل أنها قد تطرق أبواب التلفزيون المصري، حيث اشتد الحوار في برنامج “استوديو 27” بين المحامي أمير سالم والمذيعة هبة رشوان، وامتد إلى المستشار هشام الرفاعي، وتخلله كم من الإهانات والسب لكنها لم تصل إلى الضرب .
الغضب في كل مكان ولا ضوابط أو معايير في الكلام . ترى هل هذا ما دفع الفنان فضل شاكر إلى إعلان ثورته على الفن وأهله، فانقلب عليهم ووصف الوسط (وتحديداً اللبناني) ب”الوسخ” في آخر حوار له؟ “فضل” الذي سبق أن خاض معارك بالكلام والضرب مع أكثر من فنان وشخص، شن هجوماً شرساً على فنانين بأسمائهم من دون أية محاذير واعتبارات، ووصفهم بأوصاف أقل ما يقال عنها إنها لا إنسانية ولا يمكن لأي كان أن يقبلها . ومهما كان محقاً في ما قاله أو في جزء منه، إلا أن قول الحقائق لا يعني الإهانة والتجريح . ثم بماذا يفيد الناس إن قال فضل كل ما يعرفه عن فلان وعلان؟ وإذا كان يفكر فعلاً بالتصوف والتعبد لله، هل تمر طريق الصوفية من باب الفضائح وشتم الناس؟
صدقاً لم نعد نخشى على أطفالنا من مشاهدة الأفلام والفيديو كليب، بقدر ما نخاف على أخلاقهم أن تفسد مما نشاهده من عنف وبلطجة في الشوارع والتلفزيون، ومن الكلام البذيء الذي بات يقفز بسهولة إلى الحوارات خصوصاً تلك التي من المفترض أنها جدية وراقية، وضيوفها من أهل العلم والفكر والسياسة .
أختم بمشهد جميل، صادف أن شاهدته قبل فترة على إحدى القنوات العربية، التي أرادت أن تسترجع أجزاء من إبداع الماضي . وكانت الفقرة من الأرشيف المصري المسجل بالأبيض والأسود لحوار أجرته المذيعة القديرة ليلى رستم مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكانت يومها تستضيف عدداً محدوداً من الجمهور داخل قاعة صغيرة . كان لافتاً أسلوب إدارة الحوار، والهدوء الذي اتسمت به الحلقة، وكم المعلومات الفنية الغنية التي قدمها الموسيقار، وزاد من جمال الجلسة أسلوب المذيعة الذي استمر بدرجة الاحترام والتقدير نفسها وهي تخاطب الجمهور ومعظمه من طلبة الفنون، ولم تفارق فمها كلمة “حضرتك” و”تفضل” و”أستاذ”، وتخيلوا أن الموسيقار يبدأ الإجابة عن سؤال محاورته ب”حضرتك”، والأهم أنه يرد على شاب جامعي بكلمة “شكراً يا أفندم” .
حقاً شكراً يا بهوات الشاشات لأنكم أسهمتم، عن قصد أو بجهل، في تحويلها إلى أرض مجبولة بوحول الأزقة ومرتع للبلطجية، بدل أن تكون ساحة للعقلاء والمتعلمين والأميين والفقراء، حدودها الأخلاق وضبط اللسان والنفس .