2012/07/04
هيثم حسين – الوطن السورية
الدراما السوريّة، باعتبارها تجاوزت ارتباك البدايات، وترسّخت كصناعة دراميّة ناجحة، تتّجه نحو تجذير الأسس، مع المأسسة المصاحبة، التي تبدو متأخّرة عن الصدى الذي حقّقته حتّى الآن، فإن هذه الدراما، ومع كثرة الإنتاجات، التي لا تشير إلى العافية والسلامة في الأحوال كلّها، تبدّت أنها تمرّ بمرحلة انتقاليّة غاية في الأهمية، ويمكن التأكّد من هذا الانتقال، حين مقاربة بعض الأعمال المنتجة في الموسم /الرمضانيّ/ الدراميّ الفائت، حيث بدا تطويع الأعمال لمواكبة الرغبات ومسايرة التصوّرات المسبقة، كأن ترضي أو تبحث عن إرضاء، وهذه، مع التقادم، من مقاتل أي عمل.
والدراما كأيّ منتجٍ إبداعيّ تتّجه إلى الجمهور، ولا ضير في تلبية رغبات جمهورها، ولكن بالتزامن مع ذلك تبرز أسئلة كثيرة عن هذه المسألة الشائكة، التي تبدو بسيطة بقدر إشكاليّتها، وتحتمل تجاذباً وأخذاً وردّاً، وربّما سجالاً فعّالاً حولها، ومن الأسئلة الكثيرة التي تحضر في ذهن المتابع، إلى أي حدّ يمكن التكهّن برغبات الجمهور؟ ثمّ ما الذي يضمن ثبات تلك الرغبات؟ وما المقياس العملي لقياسها؟ هل يوجّه الجمهور صنّاع الدراما أم العكس؟
معلوم أن الخطاب الدرامي يتوجّه إلى متابع بعينه، وهذا المشاهد يمثّل شريحة من المشاهدين، أي إن لكلّ عمل شريحة من الجمهور، يستهدفها، أو يتوجّه إليها بشكل رئيسي، مع عدم تناسي أو إغفال إدخال خطوط ومحاور تهمّ شرائح أخرى، ترد من باب الإثراء والتنويع.
الدراما والإرضاء
وكي لا يكون الحديث عموميّاً فيفتقد موجباته، أو يبقى طليق رؤى تائهة بفعل التعميم، ومعوّمة بعيدة عن التخصيص، سيتمّ التركيز على أعمال البيئة، أو تلك التي اصطلح عليها بالبيئة، وهي بدورها تُقسّم وتُبوّب وفق تقسيمات وتبويبات، يجتهد بعض النقّاد وصنّاع الدراما في تأطيرها، ويكون في التأطير المتحدَّث فيه وعنه نوع من الاستهداف المنشود، وهو استهداف مشروع، باعتبار أن الخطاب الدرامي يروم متلقّيه، كمرسل يحمل دوالّه ومداليله، وينفتح برموزه وتأويلاته إسقاطاته ومعالجاته.
اتّهمت أعمال البيئة بأنها تقارب المُراد رؤيته، أو تقدّم النموذج المحلوم به، وذلك مع تقديم جوانب من تلك الحوادث التي تذكّي المنشود عبر التطعيم للتحبيك والتشويق. وحين يتمّ حصر العمل تحتّ مسمَّى البيئة، يتبادر إلى الذهن مباشرة صورة البيئة المكانيّة، وبالموازاة معها، تستحضر صورة زمانيّة بعينها، صورة الأجداد بحلل قشيبة، ووقائع يتناهبها صراع يتركّز على ثنائيّات بسيطة أو مبسّطة، تقدَّم في سياقات مبالغ في إضفاء الجدّية عليها أحياناً، ربّما للتغطية على مكامن الضعف والتسطيح فيها. وسواء كانت تلك الأعمال شبيهة بحكايات الجدّات، أم تبدو كأنّها مستلّة بتصرّف من بطون كتب التاريخ، إلا أنها حقّقت حضوراً لافتاً، وحظيت بمتابعة جماهيريّة واسعة، وليس أدلّ على ذلك أكثر من الاهتمام الذي حظي به «باب الحارة»، بأجزائه الخمسة، والذي انطلق من نجاح الجزء الأول الذي قارب زوايا غير مُعالَجة في دراما البيئة الشاميّة، فأسّس ذاك النجاح لنجاحات لاحقة، انطلقت في جوانب منها من رؤى إرضائيّة، ما أفقدها توهّجها وبريقها، حيث بدت الأحداث مفتعلة، وخاصّة في الجزء الأخير منه، وربّما ذاك النجاح، مع ما شابَه من تداخلات وحكايات على هامش العمل، من إقصاء أو تهميش أو انزواء، دفع إلى البحث والتنقيب في قلب البيئة عن حكايات شائقة، ومن بعض أبطال العمل أنفسهم، سواء كان بشكل منفرد، أم بالتعاون مع أحدهم، وقد نشطت الأقوال حول وجوب تقديم البيئة بالشكل الذي يليق بها، وكأنّ البيئة تظلّ منزّهة عن النقائص، ولاسيّما أن البيئة تشتمل على حياةٍ بكلّ ما فيها من يعتمل فيها من بطولات وموبقات، وما يعتريها من تداخلات وحروب ظاهرة وخفيّة.. وكأنّه يفترض بالبيئة أن تقدّم جوانب من حياة الزعامات، وأدوار الزعماء المؤسطرة، مع بعض الالتفات إلى الهامش المتنامي الذي يوضَع في خدمة الزعماء، كأنّ زعماء الحارات موكولون بكتابة التاريخ دون غيرهم من العامّة. ثمّ لتكون أعمالاً تقدَّم في بحر التنافس، لكن موجّهة كنقائض، تستهدف الإرباك وإظهار علوّ الكعب في المعالجة الدراميّة والمقاربة التاريخيّة.
لعبة «متّهمة بريئة»
ولأنّ هناك لعبة التسويق والإعلان، وهي لعبة «متّهمة بريئة» في الوقت نفسه، ولعبة مشروعة، ومُشرعة على الاحتمالات الكثيرة بدورها، فإن لها شروطاً للنجاح، ولأنّ للسوق شروطاً، يفترضها العرض والطلب، فإن الخشية من تطويع الأعمال لمواءمة ومسايرة أمزجة هذه الجهة أو تلك، ولدوافع بعيدة عن شروط الإبداع والحرّيّة الإبداعيّة المسؤولة.
كما يستحضر السجال حول استدراج الجمهور، أو اتّباع أهواء الجمهور، وهل يكون الاستدراج عبر «تفخيخ» العمل بمشاهد وخطوط جاذبة، تغازل المخيّلات وتدغدغ المشاعر، أو تمارس نوعاً من النوستالجيا المُسرّبة بذكاء، أو بمباشرة، بحيث يجد المشاهد نفسه أمام حنين ماضويّ، من دون أن يستكنه سرّه، أو يحلّل مصدره. وهو استدراج فنّيّ ممدوح، حين يُوظّف دراميّاً في سياقه؟
دراما البيئة تنهض على مقوّمات عديدة، الإخلال بأي منها يخلّ بالعمل كله، ولأنّ العمل بنية متكاملة، فإن تركيز المشاهد يتوجّه إلى الظاهر بداية، كالديكورات والألبسة، وقبل ذلك وبعده إلى اللهجة، ولاسيّما من أبناء البيئة المقدَّمة، فيكون تدقيق واختبار ومساءلة، وحين يفشل بعض الممثّلين في تقليد اللهجة، فإن ذلك ينعكس على العمل كله، ويوصَف العمل بالناقص والمعتلّ، هذا عدا عن المُساءلات التاريخيّة والجغرافيّة التي لا تنتهي. ومن هنا للإحاطة بأي عمل بيئويّ، أو لإنجاز بيئة العمل بالشكل المطلوب، الأقرب إلى روح البيئة، لا بدّ من التدقيق على كلّ جزئيّة وفيها، ليكتمل معمار العمل الدراميّ، وينهض بعيداً عن أيّ زلّة غير مرغوبة، أو خلخلة مهروب منها، وهذا بدوره يستدعي الابتعاد عن «السلق»، ويوجب التهدئة والتركيز.
لا يخفى أن الحديث عن البيئة لا يختصّ بالبيئة الشاميّة من دون غيرها، بل هنا بيئات وبيئات، تثرى بها الدراما، لما لها من مقدرة استقطابيّة و«عذريّة» دراميّة، وحقل الدراما يغتني بالبيئات غير المقدّمة، ولم ترقَ الأعمال التي قدّمت بيئات موازية للبيئة الشاميّة، إلى التركيز الذي تمّ على البيئة الشامية، باعتبارها بيئة تكون مختصرة، أو نموذج البيئة السوريّة الغنيّة بالكثير من الحكايات البكر، التي تشكّل خزّاناً للدراما مستقبلاً؛ خزّاناً ينضح بالإبداع ويمور بالتجديد والتجريب.
الموسم القادم محكّ حقيقيّ للدراما السوريّة كلها، ودراما البيئة بشكل أخصّ، فإمّا أن يقع صنّاع الدراما في فخاخ نصبوها بأنفسهم ولم يتمكّنوا من تخطّيها أو تجاوز أنفسهم فيها بعدُ، إما أن يبرهنوا على أن التجديد سمة الدراما، وأنّ نهرَ الإبداع الدراميّ دائم الجريان..! ويبقى كلّ طرف بوصلة للطرف الآخر، والعمل الناجح يجمع الأطراف بشكل متناغم منسجم.