2012/07/04
خاص بوسطة _ عوض القدرو
هلأ .. لوين . عنوان مبشر جداً لسينما عربية تُخرجُ من القلوب أوجاعها ولسينما تُعبرعن حلم شُعوبٍ تحمل في قلبها آهات و أوجاع ..
من اللحظات الأولى لهذا الفيلم انتابني شعور بأنني يجب أن أمسك بمنديلي لأكفف به ما قد ينهمر من دموعي أثناء مشاهدتي لهذا الفيلم ... وتسائلت إلى ماذا ستؤول مسيرة تلك النسوةُ المتشحات بالسواد اللواتي يعبرن إلى مقبرة الضيعة على وقعِ موسيقى تُثقل من وقع أقدامهن على الأرض الوعرة إلى مقبرةٍ صغيرة تختلط بها قبور المسلمين بالمسيحيين الهلال يرخي بظلاله على الصليب والذي يرخي بظلاله أيضاً على الهلال من هنا تعلن نادين لبكي فيلمها وصرختها .. صرخة فيلم يعبر تماماً عن آلام ليست المرأة اللبنانية فحسب و إنما صرخة كل إمرأة عربية ... هذا الإحساس لا يجيد التعامل معه والشعور به سوى مخرجة تحمل كل أحاسيس المرأة العلني منها والباطن نادين لبكي بفليمها .. هلأ لوين ... تبعث برسائل عديدة منها العام ومنها الخاص .. رسائل من أرض ليست لبنانية أو سورية أو مصرية .. من أرض عربية من ديار أراد لها الآخرون ما أرادوا وفتكت بنفوس أبنائها صراعات ساستها ما قد فتكوا .. بهذا العمل السينمائي المتماسك والذي يحمل مفردات إنسانية عالية لا تسمح لمن أرادوا أن يطفئوا صفة العيش المشترك بأن يجعلوا من الهلال قاتلاً للصليب ولا العكس .
بهذا الفيلم جاءت نادين لبكي لترسخ وتقول وتغير الكثير من المفاهيم بأن المرأة العربية أو الشرقية ليست مجرد رقم بالمجتمع العربي وليست للسرير فقط أو لتربية الأولاد وما شابه ذلك .. بهذا الفيلم تصرخ نادين لبكي ممثلةً ومخرجةً صرخةً مدويةً عاليةً الأنين بأسم كل النساء صرخة بوجه كل من يعبث ويهمش مصائر البشر ويقرر متى تتشحن النسوة بالسواد حداداً على أبناءها وعلى أزواجها وعلى أحبابها ..
هلأ لوين ... فيلم يتجاوز أزمة السينما العربية ويتخطاها بمراحل كبيرة تجعلك ومن أي موقع أنت إلا أن تعترف وتقر بأنك أمام عمل سينمائي رفيع المستوى عمل يرتقي الى مستوى صناعة السينما العالمية .. فيلم ينطلق من فكرة بسيطة بشكلها كبيرة بمحتواها فكرة نبتت بالشارع العربي وشاء لها القدر أن ترخي بظلالها على حياتنا اليومية وتأخذنا من أحلامنا وجمال عيشنا إلى عوالم أخرى مجهولة المصير ؟؟؟
للطوائف ليس هناك لها أي مكان بهذا الفيلم فقط العنوان الأبرز هو التعايش الإسلامي المسيحي بعيداً عن مفهوم المناطقية وعن تعدد الطوائف ضمن الدين الواحد. الفقر قاسم مشترك بين الجميع وحقل الألغام المحيط بتلك القرية هو السد المنيع لبروز وظهور وللحد من علانية هذا التعايش بين أبناء القرية الواحدة ... نسوة هذا الفيلم نسيج من أحلام وآلام تجمعهم وتضعهم دوما رهن مصير واحد فعقلية الرجل بفيلم هلأ لوين هي تلك العقلية المحدودة مثلها مثل حدود تلك القرية تحكمها فقط الشعارات التي تأتي من بعيد التي تفتك بالعقول مثلما تفتك النار في الهشيم لا ضوابط تحكم عقلية الرجل بهذا الفيلم .
كيدهن عظيم ... مقولة أستفادت منها نادين لبكي بشكل إيجابي جداً لتحولها بهذا الفيلم إلى حالة إنقاذ إلى كلمة توحيد لجمع كل رجالات هذه القرية وتذكيرهم بأن مقولة الله على الأرض هي خير و أبقى من أي شعارات رنانة أخرى والطريق إلى الله إلى الخير لا ينطلق من المسجد أو الكنسية مهما كانوا متقاربين كما بدا ذلك في الفيلم فمن خلال شخصية المرأة التي تقدمها نادين لبكي بهذا الفيلم جاءت متوافقة مع عدة نماذج للمرأة العربية كما هي في الحقيقة تماما صورة المرأة التي تخاف على ولدها وزوجها وأخيها المرأة التي تحرص على بنية المجتمع التي تعيش به والوفاء لهذا المجتمع الذي بظله تلد وتحيا وتموت تلك المرأة التي تصرخ بعد طول صمت كفى أرجوكم دعوني أعيش بدون أحزان لا تأخذوا مني قلبي ولا تسرقوا فلذة كبدي ولا تجعلوا مني سنداناً لوقع أحقادكم ولتصفية حساباتكم دعوني أعيش دونما الخوف من غداً ولا أشعر بحسرة على الأمس .. أنا المجتمع وأنا الأم والأخت والزوجة والصديقة والحبيبة فلطفاً يا سياسة اليوم لطفاً بهذا المجتمع المتعايش المتآخي اتركونا بعيداً عن أطماعكم .
هلأ لوين ... فيلم لا يختصر ضمن كلمات و إنما هو صندوق بريد فيه الكثير من الرسائل والعبر وفيه طريق واحد لاغير للحياة هو طريق الحب في سبيل نشر رسالة مضيئة مفادها أننا هنا على هذه الأرض حيث ولدتنا أمهاتنا بمشيئة الله وحده سواء كنا مسلمين أم مسيحين فطريفنا وعيشنا واحد .
نادين لبكي بفيلمها هذا تحقق المعادلة الصعبة تحشد كل أدواتها وتوظفها خير توظيف وتعبر بفكرها الناضج إلى ما هو أبعد بكثير على أن يقال ضمن فيلم سينمائي ..
وهلأ لوين ... عندما ظهرت عناوين نهاية الفيلم لم أستعمل منديلي لأكفكف دموعي ... وأطلقت العنان لدموعي تنهمر دونما خجل فلا خجل من الواقع أبدا ولكن الخجل أن ندفن رؤوسنا وندعي أننا متحررين من أشياء كثيرة
ولكن نادين لبكي صرخت من قلب أليم وصنعت سينما التحرر.
عوض القدرو
ناقد سينمائي سوري