2012/07/04
الثورة
مرة أخرى تمر ذكرى أستاذ الموسيقا العربية رياض السنباطي بهذا القدر الكبير من الحياد الجارح... مرة أخرى تصمّ المؤسسات الثقافية والإعلامية آذانها عن نتاج هذا الفنان،
وتفتحها على زعيق المهرجانات وبريق الاحتفالات المنهمكة بحمى التجديد والتجريب والتغريب..
هكذا لم يعرف رياض السنباطي لحظة وفاء حقيقية تليق بفنه وتطاول قامته الشامخة وظل يعاني الجحود والنكران...
كان رياض السنباطي يعرف بأنه طائر يغرد خارج السرب.. وأنه الصوت.. والآخر الصدى..
لذا كان عليه الانتظار على أبواب التقدير ينتزعه انتزاعاً ويسعى كبقية السعاة بحثاً عن جائزة هنا وتكريم هناك.. لكنه رفض هذا التكسب رفضاً قاطعاً وانطوى في عزلة خلاقة يغرف من معينها ما يشاء ليهيئ لنا مفاجآت ثمينة وأعمالاً جليلة تبشر بزمان آخر ورجال آخرين...
...حين نتحدث عن رياض السنباطي فإننا نتحدث عن عبقرية موسيقية بكل معنى الكلمة... وإن كان الحديث عن العبقريات أمراً محفوفاً بالمخاطر، لافتقاد هذه الكلمة إلى تعريف علمي دقيق وقاطع... مع ذلك من حقنا أن نسأل لماذا يكون الناقد في بلادنا مطمئناً حين يتحدث عن عبقرية موتسارت أو بيتهوفن أو لاندل (وهي حقيقية) فيما يكون خفيض الصوت، يتحدث على استحياء عن عبقرية السنباطي أو محمد عبد الوهاب أو القصبجي؟ ألأنهم يتحدثون لغتنا؟
أم هو سحر الغرب الأخّاذ؟!
حين تقدم ابن السابعة عشرة ليلتحق بمعهد الموسيقا العربية قسم العود لم يخطر على باله أن اللجنة الفاحصة آنذاك والمكونة من جهابذة الموسيقا ستختاره على الفور أستاذاً لآلة العود, فكانت تلك أولى لمحات أو ومضات عبقرية رياض السنباطي المبكرة...
يعتبر رياض السنباطي نموذجاً لعبقرية الموسيقا العربية فهو الموسيقي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بموسيقا أجنبية كما جاء في تقرير اليونيسكو الذي منحه جائزته العالمية عام 1977 باعتباره «الموسيقي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بأي موسيقا أجنبية وأنه استطاع بموسيقاه التأثير على منطقة لها تاريخها الحضاري»...
استطاع بألحانه «النخبوية»، إذا جاز التعبير، أن يرتقي بالذوق الموسيقي العام ويتسلل إلى قلب كل مستمع من المحيط إلى الخليج والى وجدان الطبقات والشرائح الاجتماعية والثقافية والفكرية كافة، وجعل رجل الشارع الأمي يردّد معه «سلوا قلبي» و«نهج البردى» و«رباعيات الخيام» و«الأطلال» و«سلوا كؤوس الطلا...». وكانت أم كلثوم الصوت العبقري الذي حمل أعمال السنباطي من ضفة الخاصة والنخبة إلى ضفة العامة والجماهير... كما استطاع وسط فوضى التجديد الارتجالي والانبهار بكل ما هو آت من وراء البحار أن يجدد ويطور من دون أن تجرفه الأمواج إلى بحور الغرب... على الرغم من اطلاعه الكبير على الموسيقا الغربية الكلاسيكية والحديثة ومعرفته العميقة بها وعلى الرغم من غزارة إنتاجه الذي جاوز الألف من الأعمال المتنوعة بين قصائد وطقاطيق وأدوار ولونغات وموشحات ووطنيات ودينيات الخ....
استطاع السنباطي أن يطور أساليب الأسلاف، فاستبدل الدولاب الموسيقي التقليدي بمقدمة موسيقية تعبر عن القصيدة ككل وتترجم المعاني بروح شاعرية شفافة قلما سما إليها ملحن عدا القصبجي وعبد الوهاب.. لقد استخدم السنباطي بنجاح باهر اللغة الموسيقية ذات الخصوصية الشرقية في التعبير عن متطلبات العصر «كما جاء في كتاب الناقد المعروف صميم الشريف «رياض السنباطي وجيل العمالقة».
رياض السنباطي عشرون عاماً على غيابك.. عشرون عاماً على غيبوبتنا.