2012/07/04
خاص بوسطة – فارس الذهبي
في عام 1936 وعن عمر يناهز 38 عاماً... وعلى إحدى التلال المحيطة بمدينته غرناطة وتحديداً قرب حاجز فينتار أوقفت إحدى المليشيات المتصارعة التي تدعي حبها للوطن، المواطن فيديريكو غارسيا لوركا وبعد التحقيق السريع معه اكتشفوا أنه الشاعر الثوري الرقيق، شاعر سهول الأندلس فحوكم ميدانياً وأعدم رمياً بالرصاص قبل أن يتاح له دخول مدينته، عشقه، هكذا وبهذا البساطة مسحت الحرب الأهلية الاسبانية وعبر أحد حواجزها واحداً من أرق سكان الكرة الأرضية وأقلهم عنفاً، وهكذا اختفت جثته تماماً حتى الآن...
لم يسمح السعار المنفلت من كل الضوابط لأحد من الاحتفاظ حينها بإنسانيته وتحولت البلاد المترعة بالخوف والأمل، إلى ساحة عالمية للاقتتال والقتل المجاني..
لطالما أرعبتني هذه الصورة التي لم تلبث تغادر مخيلتي، وأنا أتخيل تلك النهاية الفجائعية لشاعري المفضل لوركا، الذي قضى عمره القصير في وصف الغجر والزهور والحياة، وكيف انقصفت زهرة عمره بهذه الطريقة الحيوانية على أيدي رجال عصابات عمياً، إسبان، جهلة لا يفقهون من الحرب سوى الموت.
وها أنذا أصر يومياً على التوقف اللااردي أمام حواجز لطالما تندرنا عليها وأصدقائي، لما سيحصل لهذه البلد الأندلسية أيضاً، أقف وأتعرض للتفتيش وأضطر للتعريف بنفسي يومياً وكأنني أتجاوز عشرات الحدود يومياً، على العلم أنني لا أنفي حسن نية الواقفين على هذه الحواجز وحرصهم على حماية المدنيين.. وأنا أعرف وأيقن أن الأمن، أمني وأمن الناس، هام جداً وأدرك بأن الناس خائفة وصامتة، ولكن أليس هنالك من طرق أخرى غير تقسيم عرى المدن والبلد وتفتيتها كي ننعم بهذا الأمان، ولأقلها بشكل آخر، بالأحرى أين الأمن وعناصره المؤلفة، أين هم الآن حينما احتاجهم البلد، هل كان من الضروري سماع قصة عن ثلاثة باعة بطيخ أردوا خطأً في حافلتهم لأنهم لم يتوقفوا لحاجز، أو قصصاً عن مهاجمة حواجز للجيش والشرطة وقتل عناصرها، هل من الضروري تلقينا نصائح الوقوف أمام الحواجز، من عدم سماع الأغاني في السيارات ورفع صوت المسجل وفتح النوافذ حتى نسمع أوامر أمراء الحواجز الجدد لنا بالتوقف أينما أرادوا، أنا أعلم أنهم هناك من أجل الأمن ولكن أقول من يبتغي فعل السوء لن يوقفه حاجز، ولن يردعه مدني مسلح، أين الشرطة أين عسس الداخلية المشهور.....
هنا على التلفزة، أرى صوراً رهيبة.. شبان مستلقون أشبه بالموتى وبشر مدججون بالسلاح وبزنانير الموت يدوسون عليهم، أتمنى وأحلم ألا يكونوا من ترابي وهوائي ولا بلدي، فالجميع ينفي سوريتهم من فرط الخجل، يدوسونهم وكأنما يرقصون فوق جثثهم الرمزية رقصة النصر الافتراضية، رقصة انتصارهم على إنسانيتهم بغض النظر عما اقترفه هؤلاء وعما لم يفعلوه، رحماك، فإنسانية المسلح الذي يرقص فوق مواطنه قد سلبت أيضاً مثلما هي لحظات الجزار حينما يجز عنق الشاة.. هي لحظات عماء واسوداد.. لحظات تضيع فيها إنسانية القاتل والمقتول، الجلاد والضحية، لأن أحدهما يطالب بالحرية له وللثاني، والأخر يطالب بالأمن له وللأول، وهما يتخاصمان كمن يلعب القمار على طاولة مرتجلة في الشارع، قمار لا يجوز أن يلعب بأساسيات الملك، يلعبون على الحرية والطائفية والسلم الأهلي والأمن والعدالة والإنسانية، وهي قيم لا يجوز اللعب عليها أبداً.. الجميع في حالة غضب وما الغضب إلا غصب وعصب وعطب، الكل احمر وجهه من هذا المشهد، من المستفيد ومن المتضرر، والجميع يسأل ما الحل، ولكن ما هو الحل؟
في النصف الأول من القرن العشرين أصدر الكاتب الاسباني سيزار باييخو كتابه الشعري رحماك اسبانيا خلصينا من هذا العذاب، أرجو ألا نصل بسوريانا إلى مرحلة نصرخ فيها رحماك سورية خلصينا من هذا العذاب، السوري كالسوري لا فرق بينهما إلا الكاف.
اليوم ليس كالبارحة حتماً وغداً ليس مثل اليوم، أسس جديدة ترسى في بلدنا، مع تواصل سقوط الرصاص (المجهول) وصعود أرواح أبناء شعبي من مدنيين وعسكريين ورجال أمن وضباط جيش وأصحاب حقوق، نحو السماء في ازدحام يشبه ازدحام أسراب الطيور المهاجرة وتساقط أوراق زهور الشقائق المترنحة يمنة ويسرة بهدوء، رحم الله الجميع واسكن العقل بديلاً فيما تبقى من غضبنا حمال الأوجه.
فارس الذهبي
كاتب سوري