2012/07/04
عبد الكريم العبيدي - البعث
ترك الحدث السوري منذ آذار المنصرم العديد من الأسئلة عن الدور الذي يمكن يلعبه الفن والفنان من خلال الدراما في توعية جمهور عريض من الشارع من مخاطر دمج أو خلط المطلب أو الموقف الشخصي بمصير الوطن، خاصة بعد أن تكشّفت أبعاد المؤامرة الخارجية التي استهدفت وجودنا برمّته . ورغم أن الفنان السوري لعب أدواراً مهمة في مناسبات سابقة، إلاّ أن الجماهير حمّلت الفنان مسؤولية كبرى في التصدي لهذا المشروع الفتنوي الراهن باعتباره الأخطر لأنه استهدف النسيج الاجتماعي بهدف تمزيقه.
وقد عرفت شعوب العالم المختلفة تجارب مماثلة وإن لم تكن متشابهة، لعب فيها الفنانون والدراما التي ينتجونها أدواراً لاتقل أهمية عن دور الجيوش في التصدي لتلك المخاطر. وتعد السينما الروسية بحقبتيها، ماقبل انهيار الاتحاد السوفييتي وما بعده، من أهم الأمثلة الفنية التي قدمتها الدراما العالمية في التركيز على الجوانب الإنسانية والنبل الأخلاقي المصاحب للأزمات التي غالباً ما ربطت بين الشخصي والعام وما بينهما من عناصر التضحية والإيثار ونكران الذات سواء في الفصل الاجتماعي أو ذاك المتعلق بالأوطان .
يعتبر المخرج الروسي العالمي المعروف نيكيتا ميخالكوف 1945 نموذجاً في تناوله تلك الموضوعات . كما يعد فيلم " مصير سيرغي كوتوف " بجزأيه الذي مثله وأخرجه ميخالكوف، الذي تتميّز أفلامه في صناعة الشكل، وتحسسه للممثلين وإمكانياتهم وطبيعتهم وجوهرهم، كما اهتم كثيراً بالوضعيات واللهجة. وعود على بدء فإن عرض الجزء الأول من فيلم مصير الجنرال كوتوف كان في مهرجان"كان" سنة 1994، وروى لنا قصة جنرال برز إثر الثورة الروسية الشيوعية ثم أصبح مبغوضاً في عهد ستالين. زُجّ به إلى السجن وحُبس خمس سنوات إلى أن هرب من زنزانته في صيف 1941 عند وصول الجيوش النازية إلى ستالينغراد. ورغم أن الحكومة السوفييتية اعتبرته ميتاً، فقد التحق بفيلق من المقاتلين المتطوّعين لكي يدافع عن بلده بعد أن أدرك تماماً أن المعركة معركة وجود ولامجال للخصومة السياسية بين أبناء الوطن الواحد إذا كان الوطن برمّته مهدداً.
يمثّل المخرج نيكيتا ميخالكوف دور الجنرال المعارِض، مع الممثل أوليغ مينشيكوف الذي يمثل دور العميل ميتيا، يتناول المخرج تاريخ بلاده مستنداً إلى حياة هذا الجنرال ولاسيما انتصار الجيش السوفييتي في الحرب العالمية الثانية.
أما الفيلم الآخر الذي قدّمه نيكيتا ميخالكوف بهذا المعنى أيضاً فهو فيلم "حلاق سيبيريا" 1998 والحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، من بين العديد من الجوائز الأخرى. وتدور أحداث الفيلم حول شخصية فتاة أمريكية تزور روسيا عام 1905، وتدعى "جاين كالاهان” التي تؤدي دورها الممثلة والمنتجة البريطانية جوليا أورموند، التي عرفها المشاهد السوري ببطولة فيلم « الفارس الأول » مع شين كونري وريتشارد كير، وتبدأ أحداث الفيلم بالبطلة وهي تكتب رسالة لابنها أندريه الطالب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية. تروي له قصة حياتها، وتصف فيها الأحداث التي سبقت ولادته قبل 20 عاماً حيث سافرت إلى روسيا القيصرية كمساعدة للمخترع الأمريكي غريب الأطوار دوغلاس ماك كريكين، الذي صمم آلة عملاقة لقطع الأخشاب أسماها « حلاّق سيبيريا» وكان يطمح لبيعها و تسديد ديونه، لكن ذلك يحتاج لجهات ترعاه و تموله، هذه كانت مهمة مساعدته جاين التي جاءت إلى روسيا مدعية بأنها ابنته، وتتعرف بالمصادفة في قطار على طالب في الأكاديمية العسكرية الروسية «أندريه تولستوي» الذي عرف عنه ولاؤه لوطنه روسيا وللقيصر، وأصبح فيما بعد حبها الكبير، في الوقت نفسه ظهر الرجل صاحب النفوذ الذي يمكن أن يساعدها على تحقيق مهمتها و هو الجنرال رادالوف الذي لم يخفِ إعجابه بها و رغبته بالزواج منها.
وتتوالى الأحداث ليتعانق العام بالخاص، ويرتبط المصير الشخصي بمصير الوطن. وتتقلب عواطف الأبطال جميعاً .. والفيلم في هذا كله، وهذه ميزته، يحس الأشياء بعمق وقوة..تدريجياً أخذت هذه الشخصيات الثلاث تلعب دورها الرئيس فتبلورها أحداث الفيلم التي تمركزت حول التنافس غير المتكافئ بين تولستوي و الجنرال للظفر بحب جاين من جهة و حول الصراع الداخلي الذي كانت تعيشه جاين بين حبها لتولستوي و مصلحتها بالزواج من الجنرال، وعندما يتبين للجنرال أن جاين تفضل عليه الطالب تولستوي، يتم نفيه إلى سيبيريا بتهمة تزعم أنه تهجّم على القيصر وحاول اغتياله وسط دهشة العارفين بولائه، مدة الفيلم 180 دقيقة يحاول فيها المخرج نيكيتا ميخالكوف، و الذي مثّل فيه أيضاً دور القيصر الروسي الكسندر الثالث، تعريف المشاهد تدريجياً على طبيعة المجتمع الروسي آنذاك و العلاقات السائدة فيه وعلى مفاهيم كيف يمكن للإنسان أن يذوّب ذاته في بوتقة المصالح الوطنية الكبرى رغم الشعور بالألم والمهانة والظلم والحيف؟.
وعلى الطريقة الروسية، فإن مأساة تولستوي هذا تمنح المشاهد شعوراً عظيماً بصورة الإنسان الذي يفيض وفاءً وحباً وكرامة!.
فكم نحتاج اليوم للتذكير بأمثلتنا الوطنية من خلال الدراما السورية، خاصة ونحن نخوض حرباً شرسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حرباً تماهت فيها لدى البعض من أبناء الوطن مع الأسف الشديد الحاجة للمطالبة بما هو شخصي وبين مصلحة الوطن الذي لاتعلو عليه حاجة أو مطلب .