2012/07/04
محمد أمين – الوطن السورية
لم يكن الإعلام العربي متهماً كما هو عليه اليوم. إنه في عين عاصفة تشكيك لا مثيل لها. كل الأطراف تريده كما تهوى وتحب فما دام يحقق غاياتها ويسعى في مقاصدها فهو إعلام نزيه ومهني وذو مصداقية عالية ويقوم بمهامه الوطنية والقومية، وما دام لا يعريها من أثوابها المتعددة هو إعلام (شريف) لا يكشف ولا يغطي ولا يُعري. الكل يريد من الإعلام العربي أن يبقى مسكيناً لا حول له ولا قوة ولا أنياب. في عام 1990 كنا طلاباً في السنة الثانية من قسم الإعلام بكلية الآداب وفي أول محاضرة لأستاذنا حسين عودات سأل سؤالاً لا أدري لماذا اختارني أنا من بين عشرات الطلاب الموجودين للإجابة عنه: هل هناك إعلام محايد بالعالم؟ كان السؤال صادماً ومحيراً ولم يكن أحد بالقاعة، يمتلك إجابة أكاديمية رصينة عليه. أجلسني وبدأ يشرح لنا وخلاصة كلامه أنه ليس هناك إعلام محايد ولا حتى في أرقى الدول الديمقراطية وقال: ليس هناك إعلام حر في العالم وإنما هناك حرية للصحافة تتسع أو تتقلص تبعاً لظروف شتى.
في ذاك العام كانت الصحافة الورقية والإذاعية سيدتي الموقف بلا منازع حيث لم يكن البث الأرضي للتلفزيون قادراً على المنافسة وخاصة إذا تعلق الأمر بالبعد العربي، فالبث هنا يقتصر على مواطني دولة بعينها وكانت القنوات رسمية مملوكة للدولة وتتماهى تماماً مع خطاباتها وسياساتها وتوجهاتها المعلنة وغير المعلنة.
وقد شهد ذاك العام حدثاً غيَّر العالم برمته فقد اجتاح صدام حسين الكويت وما جرى وقتها معروف لا حاجة للتفصيل فيه، ولكن اللافت أن رحلة جديدة ومنعطفاً جديداً للإعلام قد بدأ ويمكن القول إن ذاك العام شهد أول معركة جدية في حرب ما زالت دائرة حتى يومنا هذا بين مختلف صنوف الإعلام والأيادي التي تحركه والسياسات التي توجهه. كانت إذاعة (مونتي كارلو) وإذاعة الـ«BBC» فرسي الرهان وظهرت محطة الـ«CNN» الفضائية التي لعبت دوراً مشهوداً وربما مشبوهاً في تغطية الحرب وقد قيل وقتها إن الهجوم الأميركي على العراق تأخر لعدة ساعات حتى تستطيع المحطة نصب أدوات البث فوق أسطحة المباني في بغداد، وأذكر أن الشارع العربي في تلك السنوات العجاف قد وقع بين نارين: نار الإعلام الموالي الذي كان يصور العراق كقوة ضاربة قادرة على هزيمة الأعداء وتطهير العالم العربي منهم وانطلاقاً من هذا بدأت الشائعات تسري كالنار في الهشيم عن امتلاك العراق لصواريخ قادرة على ضرب الولايات المتحدة الأميركية ومنهم من قال إن تلك الصواريخ قد نصبت على سواحل كوريا الشمالية لكي تكون المسافة أقرب إلى المدن الأميركية ومن ثم هي قادرة على إبادة كثير منها، وبدأت الحرب وانتهت وإذ بنا أمام كارثة بكل المقاييس فخلال أيام انهار الجيش العراقي الذي كان وقتها من أعتى الجيوش وأكثرها خبرة في القتال والتدريب. خسرنا الحرب على الأرض وخسرنا الحرب الإعلامية وإذ بنا حفاة عراة إعلامياً لا حول لنا ولا قوة. لقد غرقنا في شبر إعلام.
و(انتبهنا بعد أن جاء الرحيل) وقررنا كعرب أن نحاول الدخول في اللعبة الإعلامية عندما تم افتتاح محطة الـ(MBC) ومن ثم (دبي) و(أبو ظبي) وبدأت المحطات الفضائية تتوالد واحدة إثر أخرى ولكن في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي كان الإعلام العربي على موعد مع ولادة محطة سوف تغير كل قواعد اللعبة الإعلامية وتذهب بها إلى الأقصى وهي محطة (الجزيرة) التي بقيت حتى مطلع عام 2003 هي اللاعب الوحيد في الملعب الإخباري العربي، تصول وتجول وتغير قناعات وتوقظ الغافل وتدق على جميع الأبواب العربية المقفلة بمهنية عالية وخاصة أنها اعتمدت على كوادر مؤهلة كما أنها دربت كوادر جديدة ووصلت بهم إلى أعلى درجة من الخبرة والتأهيل. لا شك في أن عالماً عربياً جديداً تشكل بعد ولادة (الجزيرة) في قطر التي جعلت منها هذه المحطة لاعباً مهماً في اللعبة السياسية الاقليمية، وبدأ الغزو الغربي على العراق وظهرت قناة (العربية) وقد تنافستا مع قنوات أميركية وأوروبية وهناك من رأى أن الإعلام العربي كان مجلياً واستطاع التغلب على تلك القنوات.
وقد تكرر ما حدث في عام 1990 ووقع المواطن العربي البسيط في الحيرة نفسها فإعلام (الصحاف) كان يبشر بالنصر القريب وتقطيع الأفعى على دفعات ولكن الكارثة قد حدثت ووقع العراق ووقعت معه أشياء كثيرة (الأحلام والأوهام ولم يبق لدينا شيء وأصبحنا كريشة في مهب رياح العولمة) وبدأنا نشهد ولادة محطات (التسطيح) الإعلامي وتفريغ الحياة من كل معنى.
بدأ إعلام (البرتقالة) الذي خرب النفوس وأصبح كل شيء سلعة يباع ويشترى من رؤوس الأشهاد، سقطت القيم وتلاشت المبادئ وسادت ثقافة (الكوبوي) الكريهة.
وبدأنا سنوات ترهل وتراجع ونكوص وقد أسهم الإعلام ولا شيء سواه في رجوعنا ألف سنة وأكثر إلى الوراء حتى جاء شاب تونسي بسيط انتصر لذله وهوانه على الناس بالنار التي نفخ عليها الإعلام فأصبحت ثورة لا تكاد تبقي ولا تذر. وبدأت فصول أخرى من حروب الإعلام حيث لم يعد ناقلاً أميناً للحدث بل صانع حقيقي له لخدمة مصالح من يقف وراءه.
إذاً لا إعلام محايداً ومهنياً ولا يمكن أن يكون إلا في الأحلام.. وها هو الإعلام العربي اليوم بكل صنوفه (موال أو معارض، داخلي، أو خارجي) قد تحول إلى دريئة تأتيه السهام من كل صوب. إننا نعيش مرحلة تيه إعلامي تتوالى فصوله كل يوم بل كل لحظة، تيه مستمد من تيه أمة لم تلتقط أنفاسها منذ قرون طويلة ما زلنا نحلم بإعلام ينحاز بالمطلق لقضايا المهمشين، إعلام لا يبدل ثيابه كل يوم.
إن مشهداً ثالثاً ما زال غائباً تماماً عن كاميرات الإعلام العربي، مشهداً هو أكثر قسوة وربما يصل في صدقه إلى تخوم الخيال.
إذاً ليس هناك إعلام من حيث الفكرة بل هناك أدوات إعلامية تحركها عقول من وراء حجب وستر تعطيه نصف الحقيقة وربما ربعها وأحياناً تحرمه منها بالمطلق، وفي هذه الحالة تتحول إلى أدوات تضليل وتجهيل والحال هذه يبدو الحديث عن سلطة رابعة في العالم العربي ضرباً من التخريف لم يعد ينطلي على أحد.
لقد تحولت صاحبة الجلالة إلى (أَمَةٍ) تنفذ رغبات الأسياد ولكنها ما زالت تحن إلى الزمن الجميل وتحلم بالعودة إلى عرشها.