2012/07/04
عمر محمد جمعة - البعث
بعد أن انتقل مسلسل "في حضرة الغياب" من منطقة بريقة في مدينة القنيطرة، مروراً بالساحل السوري ومناطق جبلة وطرطوس وصافيتا التي اختارها فريق العمل للتشابه الكبير بينها وبين مدينة حيفا التي عاش فيها الشاعر الراحل محمود درويش، ويجسّد شخصيته الفنان فراس إبراهيم، وصولاً إلى بعض البلدان الأوروبية، شارفت عمليات تصوير العمل على الانتهاء، ما يعني أننا سنكون هذا الموسم على موعد مع مسلسل أثار ضجّة كبرى وجدلاً واسعاً منذ أن كان مشروعاً، ورافقته الإشاعات والتجاذبات حتى البدء بمراحل تصويره الأولى، ونظنّ أنها لن تنتهي إلا بعد أن ينتهي عرض المسلسل جماهيرياً، حيث سيضع حداً لكل ما قيل، أو سيفتح أبواب الجدل مرة أخرى على مصراعيها بعد أن ظلّت مواربة حتى اللحظة الأخيرة، علماً أن العمل كتبه ووثّق أحداثه الكاتب حسن.م. يوسف ويخرجه نجدت أنزور.
إذاً، فالفنان فراس إبراهيم الذي عرفناه مبدعاً مجيداً ومجدداً في أكثر من مسلسل، ولاسيما في علامتيه الفارقتين "ليل ورجال" و"أسمهان" سيكون "في حضرة الغياب" أمام مغامرة كبرى محفوفة بالمخاطر، وامتحان صعب يراهن عليه البعض، نجاحاً لا فشلاً، ولعلّه سؤال مشروع لكل متابع فيما إذا سيكون إبراهيم بتاريخه الفني العريق بحجم الطموح المأمول منه إزاء اسم كبير كمحمود درويش، ولربما ينزاح السؤال إلى سياق متطرّف يفضي إلى القول: من سيجتاح الآخر فراس إبراهيم أم محمود درويش؟!.
إن ما قدّمه الفنان فراس إبراهيم سابقاً يشير – وبكثير من الثقة والاطمئنان- إلى أن ثمة اهتماماً ملفتاً بسيكولوجية وبنية الشخصية التي يؤديها، ورصداً للملامح العامة والخاصة لها، والتماهي في مكوناتها، وهذا ما بدا واضحاً في جميع أعماله دون استثناء.
على أن الشخصيّة الإشكالية والحضور الطاغي في وجدان من أحبّ وعشق شعر الراحل الكبير محمود درويش وترنّم بكلماته وأغانيه، ستكون تحدياً مضاعفاً لفراس إبراهيم وقد وظّف للمسلسل كل ممكنات النجاح، ويخوض المغامرة الأولى لفنان عربي في تجسيد حياة شاعر حقّق مكانة عليا ومتقدّمة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، وكوّن وعي وتوجّه أجيال بكاملها من الشعراء الذين تأثروا به وداروا في فلكه.. وما يدفع جمهور ومتلقي دراما اليوم إلى الحذر والترقّب، هو أن صورة محمود درويش الشاعر والإنسان – القريبة- لا تزال محفورة في ذهن الشباب والشيوخ، الآباء والأمهات، الطلاب والطالبات، الذين حفظوا قصائده وتلمّسوا فيها معاني الحنين والاشتياق، كما تحسّسوا في كلماته آلام الوطن والهوية المستلبة حين ردّدوا معه جميعاً "سجّل أنا عربي".
تجربة محمود درويش بكل تفصيلاتها وفصولها التي بدأت في قرية "البروة" الفلسطينية، كانت مختلفة عن كل مجايليه، لذا فهي تستوجب قراءة درامية مختلفة، إذ إنها متّسعة الآفاق، متشعبة الاتجاهات، متخمة بتحوّلات، يصعب على أي عمل درامي أن يحيط بها أو يرتّب مكوناتها كما يشتهي كل من عرف هذا المبدع الكبير، ولا يمكن أن ينكر حتى من اختلف معه فكرياً وسياسياً أنه أثّر في الحركة الشعرية العربية، وعرف العالم مأساة الفلسطينيين وقصة تشردهم من خلال شعره الذي تُرجم إلى لغات الأرض كلها، بل قدّس الآخر المفردات التي أعطته بعداً إنسانياً وكادت أن تكون سمة شعر محمود درويش وحده.. كالأم والمنفى، والحصار، والحب حين يختلط بدماء الشهداء، ما لفت أنظار مؤرخي الأدب إلى أن فعل الكلمة يمكن أن يوازي فعل البندقية، وأن الشاعر في نبرته العالية يتخندق إلى جانب المقاتل في الدفاع عن الأرض
والهوية، وأن الشهيد غسان كنفاني حينما بشّر بشعراء الأرض المحتلة عام 1967 كان يدرك أن التراجيديا الفلسطينية ستغدو، إذا ما أتيح لها أن تتنفس وتخرج من أقبية الاحتلال البغيض، لحناً حزيناً تتردّد أصداؤه في عواصم الكون ونفوس أبنائها، ففي آذار 2002 مثلاً قام وفد من البرلمان العالمي للكتّاب يضمّ وول سونيكا وجوزيه ساراماغو وفينشنسو كونسولو وبرايتن برايتنباخ وخوان غويتسولو بزيارة درويش المحاصر في رام الله. وعلى هامش الزيارة كتب الإسباني خوان غويتسولو مقالاً نشره في عدد من الصحف الفرنسية والإسبانية اعتبر فيه محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه، وقال عن درويش إنه استطاع تطوير هموم شعريّة جميلة ومؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعاً مركزياً، فكان شعره التزاماً للكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعراً نضالياً أو دعوياً.. فيما كتبت الباحثة أنجليكا نويفيرت أستاذة الدراسات العربية في الجامعة الحرّة ببرلين، دراسة بعنوان "محمود درويش: من الفردوس الضائع إلى بلد من كلام" حيث تقول بعد بيان أثر المنفى في تجربة الشاعر والمقارنة مع شعراء آخرين كالسياب وأراغون: لقد اكتملت دائرة منافي الشاعر درويش، في بدء تجربته الشعرية، أعطى الفلسطينيين قصّة تكوين خاصة بهم، تسرد نفيهم. فيما بعد، حين احتفى بالفدائي وبالشهيد، خلق دراما الخروج الفلسطيني، وجسّد العودة من المنفى. منذ الثمانينيات انكبّ على استكشاف المنفى الوجودي، فأصبح الآخر أو الغريب جزءاً من نفسه.
محمود درويش أو "فراس إبراهيم" الكاريزما الاستثنائية، والذي سننتظره "في حضرة الغياب" كان شاعراً وفيلسوفاً طوّع اللغة كما يشتهي ويريد، حرّك المياه الراكدة في الأدب العربي، وأزال الحدود الملتبسة الوهمية بين الشعر والفلسفة وهو القائل: انتظرني أيها الموت ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي.