2012/07/04
الياس سحاب: دار الخليج
في ربيع عام ،1986 في اليوم الحادي والعشرين من الشهر الرابع ابريل/ نيسان، رحل في القاهرة أحد الوجوه البارزة التي احتلت مواقع طليعية في الثقافة العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين: صلاح جاهين .
إنه واحد من جيل نادر من المثقفين المصريين الذين ولدوا في الربع الثاني من القرن العشرين، تشبعوا بالأجواء الثقافية والفنية الرفيعة التي شعت على الوطن العربي من مصر، في عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم، وهما العقدان اللذان جاءا ثمرة حضارية يانعة لثورة 1919 المصرية الرائدة . لكن مواهب هذا الجيل، بعد تفتحها الأول البالغ الغنى والثراء، كانت على موعد آخر مع القدر، عندما دقت ساعة بروز هذه المواهب، فجاءت ثورة 23 يوليو، التي أحدثت تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية هائلة في المجتمع المصري وسائر المجتمعات العربية .
يصعب كثيراً التصنيف التفصيلي لصلاح جاهين، فكل تصنيف له في أي مجال من المجالات الثقافية والفنية التي لمع فيها، يقصر بالضروة عن التصنيف العام لهذا المبدع الاستثنائي، الذي يقول إن صلاح جاهين كان في المحصلة العامة لكل ما أنتج في حياته القصيرة نسبياً، علامة ثقافية وفنية لامعة من علامات العصر الذي عاشه وأبدع في التعبير عنه .
إذا أرّخت لتطور شعر العامية المصرية في القرن العشرين، وافتتحت عصر هذا التطور باسم بيرم التونسي العظيم، فإن أول اسم تاريخي سيطالعك في تطوير شعر العامية المصرية بعد بيرم، هو صلاح جاهين، امتداداً لمعلمه الأول، واستاذاً للجيل الذي تلاه ولمعت فيه اسماء مثل عبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم ومرسي جميل عزيز وسيد حجاب وجمال بخيت، وسواهم .
وأنت إذا أرّخت لتطور فن رسم الكاريكاتور الساخر الذي بدأ يلمع في صحافة القاهرة منذ النصف الاول من القرن العشرين، فستطالعك اولا اسماء مثل صاروخان وطوغان، لكن مع ظهور الجيل الجديد من عباقرة رسم الكاريكاتور في النصف الثاني من القرن العشرين، على موجة المجلات التي ظهرت مع ولادة ثورة 23 يوليو (صباح الخير وسواها)، فإن اسماء عديدة ستطالعك، على رأسها صلاح جاهين، ثم البهجوري وحجازي واللباد وبهجت عثمان وسواهم كثر .
وأنت إذا أرّخت لشعراء الاغنية الوطنية المصرية، التي كانت نموذجا فنيا عربيا جامعا، فستبدأ بأسماء مثل بديع خيري (مجايل سيد درويش) وأحمد رامي (مجايل عبدالوهاب والسنباطي)، لكن الاسم الذي سينتصب على رأس قائمة الشعراء الذين عبروا بما كتبوا للغناء الوطني عن عصر كامل، هو عصر ثورة 23 يوليو/تموز، فإن اسم صلاح جاهين سينتصب مرة ثالثة في مقدمة هؤلاء، يكفي انه الشاعر الاول لمعظم أغنيات عبدالحليم حافظ الوطنية الخالدة، التي لحنها كمال الطويل، فاستحق كل من هؤلاء الفنانين الثلاثة، فيما ابدعوا، لقب “جبرتي ثورة 23 يوليو” أي مؤرخ هذه الثورة، منذ ولادتها، وحتى تعثرها في نكسة ،1967 ثم رحيل قائدها في عام 1970 .
لكن هذه المجالات الثلاثة: شعر العامية المصرية، ورسم الكاريكاتور، وشعر الاغنية الوطنية، على اتساعها، واتساع مساهمات صلاح جاهين فيها وتميزها، لا تكفي وحدها لتغطي كل مجالات ابداع هذا العبقري الاستثنائي من عباقرة الثقافة العربية في القرن العشرين، إنه أيضاً كاتب عدد من الأعمال المسرحية الرائدة التي لحنها الموسيقار سيد مكاوي للفن المسرحي الشهير باسم “مسرح العرائس”، وفي مقدمتها “الليلة الكبيرة”، و”حمار شهاب الدين” وسواهما .
كذلك فقد اسهم صلاح جاهين في كتابة بعض اجمل الاغنيات الرومانسية العاطفية للمطربة نجاة الصغيرة كما لفايزة أحمد وصباح، كما اسهم في كتابة الأغنيات العبقرية التي رافقت نص بعض مسرحيات برتولد برخت المترجمة الى العربية، مثل “دائرة الطباشير” و”الإنسان الطيب” .
كان جاهين عبقريا في كل هذه المجالات الفنية والثقافية التي ابدع فيها، ويكفيه رباعياته الفلسفية بالعامية المصرية، التي رثى نفسه في احداها معبرا عن جدلية الحياة والموت قائلا:
مجبر عليك يا صبح، مغصوب بالليل
لا دخلتها برجليّ ولا كان لي ميل
شايلينّي شيل دخلت انا في الحياة
وبكرة حا خرج منها شايلنّي شيل