2012/07/04
سامر محمد اسماعيل - تشرين
صورة حاسر الرأس لمسرح سوري معاصر قد تكون عبارة غير مجدية للتهكم من معنى الفضيحة النظرية التي يروج لها البعض في الصحافة السورية، أو في الندوات الارتجالية التي تدأب إلى افتعال أزمات إضافية إلى جانب أزمة قديمة-حديثة اسمها أزمة المسرح في سورية، والغريب في الأمر أن جنوح البعض إلى البحث عن هوية لمسرح سوري تأتي أول ما تأتي من فهمٍ قاصر يتبدى بمحاولات نظرية لتأصيل أصول المسرح العربي، وضرورة استلهام التراث والخلاص إلى مسرح ينهل من الخرافة والتقليد والسحر والأسطورة والحكاية والسامر والأقوال الشعبية، إلا أن الدلائل كثيرة على إخفاق تجارب عديدة في المسارح العربية حاولت منذ نهاية ستينيات القرن الفائت أن تضطلع بتيار يميزها عن غيرها ضمن تيارات مسرح العالم، وهذا يستدعي البحث في أسباب إخفاق المسرحيين العرب بتنفيذ نظرياتهم الفنية لنقل التراث إلى الخشبة، حيث ظلت كل من تجارب (على سبيل المثال) المنصف السويسي من تونس، والطيب الصديقي من المغرب، ويوسف إدريس وكرم مطاوع من مصر، وسعد الـله ونوس من سورية تدور في فلك استلهام إبداعي نقلي عن عدة أشكال مسرحية عالمية، وبات هؤلاء وغيرهم يتنقلون بين عرض و آخر- أو حتى في العرض الواحد- من البريختية إلى مسرح بيرانديللو(المسرح داخل المسرح) مروراً بمسرح الشمس لأريان مينوشكين، وصولاً إلى بيتر بروك ومساحته الفارغة، بالطبع مع وصفات نصية لها علاقة بالتراث العربي، و الهزيمة العربية التاريخية أمام حضارات انتقلت إلى خلع جلدها وتغييره بسرعة هائلة تاركةً وراءها من تركته أمام مختبراتها الفنية المنجزة على مدى عشرات السنين من التجريب والمراكمة والمكابدة العميقة مع الذات ومواجهة الجمهور بالفعل الفني لا بالتنظير الجاف للإبداع المسرحي.
أيضاً جاهر المسرحيون العرب عموماً والمسرحيون السوريون خصوصاً بضرورة إيجاد صيغ مستلهمة من الفلكلور مستفيدةً من النظرية الغربية وطغيانها عالمياً، ولكن ما الذي حدث لتجارب كثيرة من هذا النوع؟ لقد انكفأت وباءت بالفشل لأسباب فنية ذاتية لها علاقة بمخيلة إبداعية قاصرة وغير مستمرة في الزمن، أو متقطعة متذبذبة لم تضاه ما راكمته المسارح الغربية أو حتى المسارح الشرقية الآسيوية لا بأسبقيتها الزمنية ولا حتى في أشكالها ذات النفس الإبداعي الممتد في الزمن والتاريخ.
أسباب أخرى هي على الأغلب موضوعية حالت دون تحقيق التراكمية للمسرح العربي، وهي أسباب لها علاقة بواقع المسارح الوطنية والقومية التي حوّلت الفنان المسرحي إلى موظف محيلةً إياه إلى روتينها القاسي، حتى بات هذا الأخير أكبر مثال على البلادة والانكفاء والتقوقع ضمن مهماته الموكلة إليه من وزاراته، خارج أي إحساس بالمبادرة والرغبة في الإشراق والخلق الفني.
العجب العجاب أن أطروحات من قبيل (هوية المسرح السوري) ما زالت حاضرة ثقافياً ومثاراً لجدل عقيم ستتكشف على الفور عدم مشروعية أطروحاتها إذا ما أخضعنا الكلمات الثلاث الواردة في السطر السابق لمناقشة عقلية معرفية، و سيتجلى ذلك في لا جدوى هذه الكلمات (المسرح، السوري، هوية) بالتعبير عن نفسها ثقافياً وفنياً وتاريخياً، فمن يقول لي عن معنى هوية مسرح فرنسي؟ وهل هناك بالأصل وجود لمسرح إنكليزي أو أميركي أو بنغالي، أو حتى ياباني، وفيما لو وُجِد هذا المسرح ذا الأصل الواحد هل سيتخلى الفرنسيون مثلاً عن شكسبير الإنكليزي أوستانسلافسكي الروسي أو بيكيت الإيرلندي في حال قرروا أن يحتفلوا (بمسرحهم الفرنسي) المعقّم من أية (أيدٍ غريبة) تمس عذرية مسرحهم وصفاءه القومي؟!
الجميع يعرف أن من ساهم في نهضة مسرحية خمسينيات وستينيات القرن الفائت في فرنسا كانوا غير فرنسيين كالروسي أداموف واللبناني جورج شحادة والإسباني أرابال والبلغاري يوجين يونسكو؛ حتى المسرح الياباني الذي يفاخر بمسرح النو وبدمى البونراكو لا يعتبر هذا النوع من الظواهر المسرحية الأصيلة لديه كامل ما يشكل فن المسرح الياباني، بل جزءاً منه، وهذا ليس عيباً في مسرح الأمة اليابانية، لأنها أمة نابعة من أبعاد حضارية مختلفة، وذات علاقات موشورية مع مختلف فنون العالم، تؤثر وتتأثر، فأوبرا بكين العريقة لا تعتبر نفسها نوعاً خالصاً من الأوبرا رغم وجود مظاهر خاصة بالصينيين وعاداتهم ورقصهم، إلا أن أوبرا بكين تبقى نسخة خاصة في إبداعها وامتداداً حضارياً هائلاً عن الأوبرا الأوربية.
إذاً لماذا نبحث عن هوية لمسرح سوري؟ وهل هناك فعلاً ما يمكن تسميته بمسرح سوري وآخر أردني وثالث عراقي؟ أم أن المقصود من هذا القول تعريفاً كالذي أورده المسرحي فرحان بلبل في كتابه (المسرح السوري في مئة عام-صادر عن وزارة الثقافة1997) بأن (المسرح السوري هو كل ما قدمه المسرحيون السوريون على الأرض السورية).
لعل في هذا نوع من مقال لا يحمد عقباه على الثقافة السورية فسيفسائية الطابع، فالموزاييك الثقافي السوري المتنوع والمنفتح منذ آلاف السنين على الآخر لم ينادي في يوم من الأيام بمثل هذه الأطروحات التي تريد أن ترد فن المسرح إلى مستويات فلكلورية، سياحية، وأن تزج بالمسرح الوطني في أزمة خيالية، وذلك زيادةً في زيادة سواد العُصابة الموجودة على أعيننا، إنه انتقام مازوخي من ذاتنا الثقافية، ورغبة جاهلة تتعامى عن العطب الرئيس في المؤسسة المسرحية الوطنية، كي تبرم وثاقها جيداً على ما تبقى من أمل حكم علينا به سعد الـله ونوس في مقالته الشهيرة.
إن عالمية الفن عموماً، والمسرح خصوصاً لا تسمح بهذا الطرح النظري الفقير، لأن هوية أي فن في العالم تنبع أولاً وأخيراً من خصوصيته الإبداعية، وليس من مفرداته الدنيوية أو مواده الأولية البيئية، والمهم قبل كل شيء هي الرؤية الفنية التي تعطي ذلك المذاق الخاص لما يقوم الفنان بكتابته أو صياغته بصرياً أو شعرياً أو روائياً، وخير دليل على ذلك ما حققته اللوحة التشكيلية السورية المنفتحة على كل صيحات وتقليعات الفن في العالم، وما وصلت إليه شهرة التشكيلي السوري هي في هذا الفهم المتعدد المستويات والقراءات للعالم والبيئة السورية ضمن مزج هائل لكل ألوان ومذاهب الفن الحديث والمعاصر والنيو كلاسيكي، ومن ثم إسقاط مكانية الفنان وذاته على هذه اللوحة، وإبرامه لها على أنها نموذج سوري للعالم، واقتراح فريد للتوازن البصري المخيالي لعناصر لوحة يقرؤها الجميع كل من مكانه وزمانه في التلقي للأنواع والأنماط والأمزجة.
إن المسرح في سورية يحتاج قبل الذهاب إلى البحث في هويته، إلى مراكمة مستمرة لتجارب بعينها، مسرح يمتد على مساحة أكثر من عرض، كالذي ثابر و يثابر عليه مثلاً مسرح الحكواتي لروجيه عساف في لبنان، أو كالذي يشتغل عليه اليوم خيرة من شباب المسرح في سورية، وذلك عبر عروض لا تشهر اختلافها إلا من النواحي الفنية، ومن طريقة رؤيتها للعالم وحركة الناس بين اليومي والتاريخي، ومثال ذلك ما قدمه الفنان فايز قزق في (أب/سلبي، حكاية السيدة روزالين، النفق) مشتغلاً على أثنوسينولوجيا (علم المشهديات المسرحية) مطوعاً إثنيات الـلهجة السورية ومدى حركيتها وفاعليتها الخاصة والخاصة جداً على الخشبة، أو بما قدمه عبد المنعم عمايري في أربعة عروض متتالية (صدى، فوضى، تكتيك، سيليكون) مراهناً على عبقرية الفضاء وجدليته مع الممثل ذي الطاقة الكلامية المتفجرة على المسرح، أو ما قدمته رغداء الشعراني في (شوكولا، تيامو) في اشتغالها على الصورة والتكنولوجيا والجرأة الاجتماعية ذات المواضيع التقحمية لمجموعة من التابوهات المسكوت عنها اجتماعياً، أو بما قدمه المخرج والكاتب التونسي حكيم مرزوقي عبر أعمال راكمت هويتها من خلال خصوصيتها الإبداعية وموقفها النقدي من الحياة وتناقضاتها وحيوات بشرها الهامشيين على نحو (إسماعيل هاملت، عيشة، ذاكرة الرماد، قلوب) أو من خلال ما قدمه الدكتور سامر عمران على نحو (عشاء عيد ميلاد طويل جداً، الحدث السعيد، المهاجران) مشتغلاً على تجاور الأنواع المسرحية ضمن وصفة عبقرية ذات لكنة سورية غاية في الفرادة بالتعامل مع الأماكن البديلة للعرض المسرحي.
كل هذا ونعود مجدداً للبحث عن هوية لمسرح سوري، وربما سنبحث عما قريب عن قيد نفوس لهذا المسرح، وعن إخراجات قيد، وعلى الأغلب يمكن أن نطلب منه عاجلاً أو آجلاً ورقة (لا حكم عليه) ولا هم يحزنون. إن المخيلة الجديدة للفرق المسرحية المستقلة في سورية خير دليل على ازدهار فني إبداعي لرؤية العالم معافى حتى من الأزمات المفتعلة، ومن مختبرات الكتابة المسرحية التي تريد تحويل فن الخشبة إلى ما يشبه الصيدليات الجوالة، تاركةً الفسحة الحقيقية للفن المتمثلة في عكس وعي المجتمع وتحت حجج وذرائع مختلفة، مرةً من خلال وصفات أكاديمية تفصّل النصوص على مقاسات المدارس المسرحية، ومرةً بحجة تقديم النوع، فما قيمة مسرحية سورية تقدم عملاً للأميركي تينسي وليامز أو للعبثي إدوارد ألبي دون إخضاع هذه الأعمال للمعالجة الدرامارتورجية الحقة، المعالجة القادرة على انتخاب ما يمكن انتخابه لتقديم عرض سوري بامتياز من جهة التلقي، ومن جهة أن المسرح كان وسيبقى ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون مختبراً أكاديمياً، ولهذا سيصبح شكسبير مملاً، وراسين أقل لمعاناً أمام تقديم الحياة بطزاجتها وراهنيتها، ثم لماذا لا يكتب السوريون مسرحاً يشبههم، لماذا هذا الاعتماد العجيب على النصوص الأجنبية؟ لماذا هذا الاحتفاء المشوه بما أنتجه الآخر وفق ظرف اجتماعي وسياسي واقتصادي يعنيه قبل أن يعني جمهورنا المحلي؟
من هنا يمكن أن نفكر بهوية لمسرح سوري على الأقل ضمن خصوصية المشكلات التي يعاني منها المجتمع السوري وحراكه وحيويته المستمرين، وليس في نقل مآسي العصر الإليزابيثي إلى خشباتنا تحت حجة أننا نقدم مسرحاً عالمياً، ثم ألا يحق لمسرحنا أن يكون عالمياً؟ ألا يحق لإنساننا أن يكون عالمياً؟ هذا كله متوقف برأيي على إتاحة الفرصة للإشراقات الجديدة، متوقف على التخلص من الدوغائمية الإدارية التي تتحكم بشكل مباشر أو من دونه في توجيه هذه الإشراقات، والأهم أنه متوقف على الثقة بالنفس، وبالذات الإبداعية السورية؛ لنعترف أن في سورية اليوم نوعين من المسرح يقعان على طرفي نقيض، الأول يتمثل في موظفي المسرح القومي من مخرجين وممثلين ومقتبسين، والثاني يتمثل في الفرق والتجمعات المسرحية الجديدة التي يحاول شبابها وشاباتها تقديم وجهة نظر أخرى، وهذه التجمعات التي لا تلقى الدعم الكافي من المؤسسة الرسمية تعمل على كتابة نصوصها وعلى اختيار فضاءاتها البديلة، معولةً على جمهور جديد لديه تصور جديد أيضاً عن العرض المسرحي القادر على عكس ذهنيته المدنية المنفتحة على خيارات فرجة لا نهائية لكل ما هو جديد وحديث في آنٍ معاً، مع أن لا ننسى أن هناك شبه شراكات فنية يمكن عقدها بين مسرح قديم وجديد، علماً أنه ليس بالضرورة أن يكون كل مسرح جديد هو حديث، ولا أقصد أيضاً أن المسرح القديم لم يكن في يوم من الأيام حديثاً أوجديداً في آنٍ معاً، لكن صيرورة الحياة الاجتماعية تتقدم ولابد لفنون اليوم أن تعكس هذه الصيرورة وتواكبها، فما قدمه الماغوط وسعد الـله ونوس وفواز الساجر وممدوح عدوان لا يمكن تجاهله كخلاصة لتطوير العروض السورية، بل إن ما اشتغل عليه غسان مسعود وجهاد سعد وزيناتي قدسية ومحمود خضور وفرحان بلبل و رياض عصمت شكّل بنية فنية عالية للمسرح في سورية، واستطاع وفق أسبقية طروحاته الإبداعية تجذير علاقة مع جمهور عروضه، لكن هذا لا يعني الوقوف عند ما أنجز، بل إن الحركة المسرحية الدائرة اليوم يجب أن تحقق تماساً ملموساً مع المجتمعات الجديدة، ومن اللازم إعمال المخيلة السورية الشابة في هموم الحياة المعاصرة، مع الانتباه لقضية عدم الاستهانة بالذوق الفني لدى المتفرجين الجدد، فهؤلاء يرغبون أكثر من أي وقتٍ مضى لمشاهدة عروض إشكالية، عروض قادرة على إخراجهم من منازلهم العامرة بشتى وسائل الترفيه والاتصال الحديثة، وحثهم أكثر فأكثر على التضحية بنعمة الفيسبوك والرسائل الإلكترونية وبما تقدمه لهم الميديا من أطايب الأخبار العاجلة والتقارير والأفلام الوثائقية والروائية وساعات الدراما التلفزيونية، كل هذا يجب أن يضطلع به العرض المسرحي السوري الجديد، وذلك لإزالة الفكرة التي رسختها المسارح القديمة على أن المسرح متعب للقلب؛ فصيح ومتفاصح على جمهوره، ولا يحضره إلا المثقفون وأصحاب الشخصيات السوداوية الراغبة بالنكد وبمعايشة التراجيديا وجهاً لوجه، طبعاً هذا كله متوقف على طبيعة وخيارات المسرحيين الشباب، على وعيهم الحقيقي بأهمية فن المسرح، وعلى ضرورة هذا الفن في المدن الجديدة، فهذا الطرح لا يمكن أن تختص به مسارح العاصمة، بل يجب أن يكون أولاً في مسارح المحافظات وفي مسارح الأطراف، ما يقتضي التخلص نهائياً من الصيغ الرسمية للمهرجانات المسرحية التي تعتمد في معظمها على أسماء معينة وعلى عروض بائتة وفقيرة في مقترحها الفني والإبداعي، يجب أن نترك فرصة لتحفيز مسرحيين جدد، مسرحيون يتم استيعابهم بعد ورشات مسرحية يشرف عليها أصحاب الخبرة، لا أن تكون المهرجانات حجة لمرتزقة (السبونسر) ورعاة الأبقار الضاحكة، خصوصاً في غياب لجان مشاهدة نزيهة قادرة على ترشيح الأعمال الجيدة، وعدم السماح لمتطفلين وأميين في البروظة على خشبات العروض المهرجانية الخاطفة، فما نشاهده في معظم هذه المهرجانات لا يمكن اعتباره مسرحاً، بل نوع هزيل من الاستخفاف بالجمهور والضحك عليه، واستدراجه إلى إضاعة الوقت في أحسن الأحوال، والجميع يعرف أناساً أثروا بمجرد إشرافهم وإدارتهم لمهرجانات خلبية يتم فيها (لطش) المال ونهب حقوق وأجور الفنانين المسرحيين من دون أن يكون لهذه الكرنفالات المسرحية تأثير يذكر على جمهور هذه المحافظة أو تلك، فالعروض تعد وتقدم فقط في المهرجانات، والعروض نفسها تتكرر في كل المهرجانات، وللأسف الشديد الخاسر الوحيد هو الجمهور المتعطش لرؤية مسرحية ذات قيمة فنية حقيقية، مسرحية خالية من أي ملمح إبداعي حقيقي يعمل على إعادة الدفء للمقاعد الباردة..