2012/07/04
محمد خير - الأخبار
أول شريط يتناول ظاهرة التحرّش في مصر
إلى أيّ مدى يمكن تفادي المباشرة عند تناول قضية اجتماعية في السينما؟ هذا الجدل تطرحه باكورة محمد دياب الذي جمع، على الشاشات المصريّة، بين جودة الإخراج والتمثيل و... الإيرادات
القاهرة ــ النقاش الذي افتتحه «678» للمصري محمد دياب، لم يكن نقاشاً حول موضوع الفيلم فحسب، ولا حول قضية التحرش الجنسي التي تناولها. بل قاد إلى نقاش أهم هو: إلى أي مدى يمكن تفادي المباشرة عند تناول قضية اجتماعية في السينما؟
رغم مستواه المتميز، أو ربما لذلك السبب نفسه، فتح النقد أسئلة حول بعض المشاهد التي جرى فيها نقاش «مباشر» بين شخصياته الرئيسية الثلاث: فايزة (بشرى) ونيللي (ناهد السباعي) وصبا (نيللي كريم)، أو مواجهات بين تلك الشخصيات وضابط البوليس (ماجد الكدواني)... فضلاً عن مشاهد أخرى مثل الدروس التي تقدّمها شخصية صبا للفتيات كي يدافعن عن أنفسهن، أو مشهد ذهاب الشابات الثلاث إلى الاستاد. وقد شرحت خلاله فايزة سلوك المتحرش للتفريق بينه وبين «الطبيعي». يمكن مناقشة تلك المشاهد طويلاً، لكن الخلاف يبقى هنا حول إمكان فصلها عن سياقها الطبيعي في الفيلم.
هل يعني الفن استبعاد الخطاب المباشر، حتى لو تطلبه سيناريو الأحداث؟ أو حتى عند تناول وقائع حقيقية كتلك التي استند إليها السيناريو؟ هل تفرض «سينما الواقع» بالضرورة تحويل ذلك الواقع إلى صورة أخرى، تحدث تأثيرها بوسائل أقلّ «مباشرة»؟ ألا يمكن أن ينسجم الخطاب الفنّي للسينما، مع «رسالتها» القاضية هنا بتوجيه رسائل مباشرة للجمهور؟
قد لا يكفي «678» للإجابة عن كل ما سبق. لكنّه يصلح نموذجاً ومؤشراً، لأنه جمع بين إجماع نقدي حول جودة معظم عناصر الإخراج والتمثيل (ما لم يتحقق مع تجارب أخرى ناقشت قضايا اجتماعية مباشرة كالعشوائيات مثلاً)، وتحقيق إيرادات جيدة، وصلت في منتصف هذا الشهر إلى 6 ملايين جنيه مصري، علماً بأن العمل ليس من أفلام الكلفة الضخمة، وهو تجربة الإخراج الأولى لمحمد دياب الذي دخل عالم السينما بصفة سيناريست لفيلم حقّق نجاحاً كبيراً («الجزيرة» لشريف عرفة)، ثم أسس شركة إنتاجه التي أسهمت في إنتاج أفلام مستقلّة واعدة مثل «ميكروفون» (راجع المقال أدناه). أما «678» الذي كتبه أيضاً، فشاركت في إنتاجه إحدى بطلاته وهي بشرى، علماً بأنّ «محكمة القاهرة للأمور المستعجلة» حدّدت يوم 26 الجاري للنطق بالحكم في دعوى وقف عرض الفيلم بدعوى تحريضه ضحايا التحرّش على استخدام العنف «والألفاظ النابية»، في الدفاع عن أنفسهن! تستند قصة الشريط إلى وقائع حقيقية، إحداها تتعلّق بأولى قضايا التحرش الجنسي في مصر المعروفة بـ«قضية نهى رشدي»، الفتاة التي أصرّت على محاكمة المتحرّش بها وسجنه، وتسببت في إدراج مادة قانونية ـــــ لم تكن موجودة ـــــ تحاسب على جريمة التحرش. وقد أدّت دورها في الفيلم ناهد السباعي.
القضيتان الثانية والثالثة لم تختارا حالات حقيقية بعينها وإن لم يخلّ ذلك بواقعيتهما. إحداهما ـــــ أدّتها نيللي كريم ـــــ تتعلّق بزوجة تتعرض لتحرش جماعي من شبان يحتفلون بفوز مصر في مباراة كرة القدم! وهي حالات انتشرت في السنوات الأخيرة مع تفوّق الفريق الوطني! أما الحالة الأخيرة (أدّتها بشرى) فتتعلّق بامرأة في أدنى الطبقة المتوسطة. موظفة عادية تضطر لركوب المواصلات العامة، فتتعرض للتحرش اليومي في وسائل المواصلات المزدحمة، حتى يفيض بها الكيل فتستخدم التاكسي. لكن الأمر ينعكس سلباً على ميزانية الأسرة الصغيرة التي تعجز عن دفع أقساط المدرسة لابنيها. ويتعرض الصغيران لأذى نفسي، إذ يواجهان القصاص أمام زملائهما لعجز الأهل عن سداد المصاريف.
فايزة ـــــ الأفقر ـــــ هي التي تبدأ «المقاومة»، عندما تعود إلى استخدام المواصلات العامة، حاملة سلاحاً أبيض صغيراً، تطعن به المتحرش في أعضائه التناسلية وتهرب. عبر تقاطعات ابتكرها السيناريو، تلتقي النسوة الثلاث، ويبدأن توسيع دائرة انتقامهن، بعد أن يمهد السيناريو الغنيّ لذلك، بعرض الآثار المدمّرة لجرائم التحرش التي تعرضن لها، والضغوط الاجتماعية التي تضع المسؤولية على عاتق الضحية.
يتسرب انتقام النسوة إلى الصحافة فيُشغل به الرأي العام بين مؤيد ومعارض. في ذلك الوقت ينجح ضابط البوليس في الوصول إلى النسوة الثلاث، لكنه يطلق سراحهن بدعوى أنّ أياً من المتحرشين لم يقدم بلاغاً. أما السبب الحقيقي فهو التغير الذي لحق بتفكيره تدريجاً أثناء تتبع خيط الجرائم وردود أفعالها، واستكشافه الأثر الفادح في حياة ضحايا التحرش. غير أن السيناريو أضاف عنصراً آخر، هو فقدان الضابط لزوجته التي كان مشغولاً عنها على الدوام ـــــ أثناء الولادة. ما جعل لانفعالاته الشخصية دوراً في تصرفه ـــــ غير الرسمي ـــــ في القضية.
مصادفات مثل موت زوجة الضابط، والطريقة التي التقت عبرها معظم شخصيات الفيلم، أضافت حججاً أكثر لمصلحة من رفضوا دوران الفيلم حول فكرة مباشرة، بينما أبدى المتعاطفون مع الفيلم تسامحاً إزاء مصادفاته، بسبب المستوى الجيد الذي لم تعهده كثيراً الشاشة المصرية عند تناول قضايا الشأن العام. المؤكد أنّ ثمة مشاهد أفصحت عن قدرات راقية لدى المخرج الشاب، منها مشهد التحرش الجماعي عند الاستاد، والتنفيذ البارع لمشهد المطاردة بين نيللي والمتحرش بها.
ومهما كان إيمان الممثلين بـ«رسالة» الفيلم، فإن الأداء التمثيلي الراقي الذي تقاسمه أبطاله، ينمّ عن القدرة المتميزة للمخرج الشاب في إدارة ممثليه. ناقش الفيلم قضية محزنة، لكن الشريط نفسه يعدّ فرصة حقيقية للتفاؤل.