2012/07/04
سناء الخوري - الأخبار
لا شيء في محيط مستديرة الطيونة يوحي بأنّ مهرجاناً مسرحياً سينطلق في الجوار. آليّات ضخمة تواصل حفر نفق لا ينتهي. على مقربة من
الورشة، تقودك ملصقات مسرحيّة إلى «دوار الشمس». حالما تجتاز المقهى البسيط على مدخل المسرح، وتنزل الدرج المؤدّي إلى الطبقة
السفلية، تجد نفسك في قلب ورشة من نوع آخر: روجيه عساف محاطاً بمجموعة من الشباب، وبكدساتٍ من الأوراق والملفّات... إنّهم
مستغرقون في الإعداد لـ«مهرجان 50 يوماً/ 50 سنة» الذي ينطلق غداً، ويستمرّ حتى 23 نيسان (أبريل) المقبل
خلال الأسابيع الماضية، انهمك المسرحي اللبناني مع فريقه في وضع اللمسات الأخيرة على برنامج واسع، احتفالاً بمرور نصف قرن على انطلاق
الشرارة الأولى للمسرح اللبناني الحديث. ستحتفي التظاهرة بخمسة من رواد الستينيات الذهبية هم منير أبو دبس، والثنائي أنطوان ولطيفة
ملتقى، ويعقوب الشدراوي، وريمون جبارة. يقف هؤلاء وراء إطلاق نهضة مسرحية جعلت من بيروت عاصمة المسرح العربي قبل أن تخنقها الحرب
الأهليّة. ولهؤلاء يعود الفضل ـــــ إلى جانب مجموعة من معاصريهم ـــــ في إرساء الأطر الاحترافية والجماليّة للمسرح اللبناني. سيخصّص كل
أسبوع من المهرجان للاحتفاء بواحد من هؤلاء الرواد، من خلال معرض لأرشيفه، وندوة متخصصة حول مسيرته، ولقاء يجمعه بالفنانين الشباب،
على أن يختتم كلّ أسبوع بنهار احتفالي طويل
«مهرجان 50 يوماً/ 50 سنة» هو النسخة المتطورة إذا صحّ التعبير من «مهرجان شمس» الذي أطلقه عساف قبل عقد في «مسرح بيروت»، ثمّ
نقله إلى خشبة «دوار الشمس». كان للمهرجان دور الحاضن لشبان باتوا اليوم من الأسماء البارزة في المسرح اللبناني (عصام بو خالد وربيع
مروّة مثلاً)... لكنّ التجربة أصبحت بحاجة إلى تطوير، بحسب عرّابها. «أردنا مدّ البرنامج على خمسين يوماً عوضاً عن الأسبوع، لخلق مساحة
كافية لتبادل الخبرات»، يشرح روجيه عساف
على البرنامج مواعيد مسرح، ورقص، وفيديو، وموسيقى، تعطي بتشعب مواضيعها وأدواتها، صورة بانورامية عن انشغالات جيل كامل من الفنانين
الشباب. محمد بزي وسارة زين مثلاً، سيرويان هرب سكان منطقة العريش (شمال سيناء) من أصوات العفاريت، ضمن عرض أدائي بعنوان «في
ست ساعات». أسئلة الموت والحيوات المتوازية، ستعرضها مريم حمود وجسيكا خزريك في عرضهما الأدائي «مضض». في ما يركّز مالك
العنداري على لحظات الولادة المبتورة في عرضه المسرحي الراقص «إجهاض مزمن
ويحتلّ الفيديو بوصفه أداة التعبير الأثيرة عند معظم الفنانين الصاعدين، مساحة مهمّة من البرنامج. يراجع علي بيضون مثلاً هواجس المستقبل
والرحيل في شريط قصير بعنوان «فلامنكو» أبطاله راقصة وبائع أدوات رقص. من جهة ثانية، يصوّر جاد أبي خليل ناجين من الحرب، ينزلقون ببطء نحو
الهلاك، في شريطه «راحت يا حرام». في المساحة المخصصة للمعارض، مجموعة أعمال بين رسم وتصوير فوتوغرافي، منها ما التقطه الزميل
حسام مشيمش في مسارح العاصمة تحت عنوان «نحن في المسرح بخير... طمّنونا عنكم». في الصيغة الجديدة لمهرجان «شمس»، ستبقى
العروض الشبابية حاضرةً بقوّة... لكن بموازاة مبادرة طليعية أخرى. يعمل عساف على جعل «50 يوماً/ 50 سنة» محترفاً «حيوياً ومهرجانياً»، يقوم
خلاله الطلاب بجمع الإرث المبعثر لآباء المسرح اللبناني الحديث وأرشفته: «نريد لهذه التظاهرة أن تكون نواةً لمشروع توثيقي جدّي، يردم قطيعة
الشباب مع الذاكرة». مشروع ستحتضنه كواليس «دوار الشمس»، بعدما تخلّفت عنه الجامعات اللبنانية، وتجاهلته الجهات الرسميّة. «خلال
تجربتي الأكاديمية الطويلة، وجدت أن جيل الشباب يبني أعماله على تأثير النظريات الغربية الشائعة، واضعاً ذاكرته المسرحيّة على الرف،
متجاهلاً إمكان الإفادة منها بما هي تراكم معرفي ضروري»، يقول عساف. «طلابنا يسمعون بأسماء الرواد، لكنّهم يجهلون أثرهم. من منهم يعرف
أين أخفق هؤلاء أو أصابوا؟ من يعرف بماذا أغنوا مكتبتنا المسرحية، وما كانت نظرياتهم؟
الإجابة عن هذه الأسئلة مهمّة صعبة، خصوصاً أنّها ستبدو أشبه بالوقوف على الأطلال. أرشيف آل ملتقى احترق معظمه خلال الحرب، ولم يبقَ
بحوزة ريمون جبارة ومنير أبو دبس ويعقوب الشدراوي، إلّا قصاصات من زمن جميل... لتجميع تلك الأشلاء، زار الشباب الناشطون في هذه التجربة
كل واحد من الرواد في بيته أو محترفه، لتصوير أربعة أفلام قصيرة «ابتعدت عن السيرة، لتركّز على النظريات المسرحية»، يخبرنا جاد حكواتي أحد
العاملين على المشروع
برنامج المهرجان سيعطي الصدارة للقاءات مفتوحة بين الشباب والرواد الذين مهّدوا لهم الطريق، إضافةً إلى ندوات ينشّطها صحافيون ونقاد
ومسرحيون. ستنتج من ذلك مادة مصوّرة غنيّة، تعرض خلاصتها خلال الأيام الاحتفالية، إلى جانب الأفلام القصيرة. «سنجمع كلّ ذلك على
أسطوانة «دي. في. دي»، لتكوّن نواةً لمكتبة ذاكرة المسرح اللبناني»، يخبرنا عساف. مكتبة ستسدّ فراغاً مرجعياً، يطمح مؤسس «مسرح
الحكواتي» إلى استكمالها في السنوات المقبلة من خلال تكريم برج فازيليان، وشكيب خوري، ونزار ميقاتي، وعصام محفوظ، ورضا خوري، ومادونا
غازي ونضال الأشقر وآخرين
هل ينجح «مهرجان 50 يوماً/ 50 سنة» في تحقيق طموحاته؟ أمامنا خمسون يوماً بلياليها لنحكم على النتيجة. لكنّ التجربة تكسب رهاناً جوهرياً
قبل انطلاقها، هو نجاحها في خلق مساحة للتفاعل واللقاء بين جيلين متباعدين ـــــ جيل ما قبل الحرب، وجيل ما بعد الحرب ـــــ تفصل بينهما
ثلاثون عاماً من النسيان والإسفاف والتجهيل.«خطّان متوازيان»، يعدنا المعلّم روجيه عساف بأنّهما «سيلتقيان هذه المرّة