2012/07/04
عباده تقلا
تعود صورة لقائي الأول مع أعمال أسامة أنور عكاشة إلى ما يقارب خمساً وعشرين سنة، و تحديداً إلى وقت عرض شاشة التلفزيون الأردني لحلقات مسلسله الممتع "الشهد و الدموع". منذ ذلك التاريخ تعلمنا على يدي عكاشة كيف يكون الانتظار: انتظار موعد الحلقة التالية من المسلسل اليومي، وانتظار أن تقوم شاشة التلفزيون السوري بعرض المسلسل المذكور كي نحظى بفرصة متابعة أكثر دقة و وضوحاً، دون أن يتحقق ذلك. بعدها و قفنا بكل ما فينا من حسن طفولي مع أولئك الذين وجهوا لنا الدعوة للوقوف معهم في وجه البلدوزرات في مسلسل آخر لعكاشة حمل اسم " الراية البيضاء". أسامة أنور عكاشة الذي بدأ حياته مع الكتابة القصصية، وعندما وجد أن كتاب القصة في مصر أكثر من قرائها، قرر – من حسن حظنا و حظ الدراما العربية- أن يلتفت إلى الكتابة التلفزيونية حتى أصبح في نظرنا مقابلاً لعمل درامي يتمتع بسوية فنية عالية ويستحق المتابعة، وهو ما تعمق في دواخلنا حين أطل علينا برائعته" ليالي الحلمية"، ليتجاوز الأمر قضية الانتظار والترقب للحلقات القادمة والأجزاء اللاحقة، ولتصبح أيامنا بأسرها تسير على إيقاع تلك الليالي، وتقلباتها وعلاقات أبنائها. في ليالي الحلمية نجح عكاشة في صياغة شخصيتين أعادتا اكتشاف موهبتين تمثيليتين كبيرتين، وأقصد بهما يحيى الفخراني و صلاح السعدني، منتشلاً إياهما من الظل السينمائي والحالة التلفزيونية العادية، لينالا مكانة يستحقانها على الشاشة العربية، كما فجر موهبتي ممدوح عبد العليم وهشام سليم، و نفخ الحياة في ممثلين عملوا في المهنة قبل عشر سنوات من ليالي الحلمية دون أن يعرف بهم أحد، ممثلين مثل إسماعيل محمود الذي أدى دور زاهر سليمان غانم، و فتوح أحمد الذي انطلق بعد الحلميية إلى مواقع أكثر تقدماً. كما نجح عكاشة في تقديم عمل يستحق أن يسمى مدرسة درامية بحق، تشعر وأن كثيراً من الأعمال التي تلتها استقت منها شيئاً. و حتى أيامنا هذه فإن كثيراً من الجماهير العربية تعيش طقس متابعة متفرداً مع كل إعادة لحلقات المسلسل المذكور على أي قناة فضائية، لتستمتع من جديد بتقلبات الغرام بين علي البدري وزهرة غانم من جهة، والصراع الأزلي بين الآباء سليم البدري وسليمان غانم من جهة أخرى. بعد ذلك عاد عكاشة ليمارس لعبة شدنا نحو بطل من لون مختلف، حسن آرابيسك، ابن البلد الشهم في كل انكساراته وأحلامه وفلسفته وتساؤلاته عن مصر وتاريخها الفرعوني والمملوكي والعربي والقبطي والإسلامي ، طارحاً تلك العبارة المهمة: "عندما نعرف من نحن، نعرف ماذا نريد" ميزة دراما عكاشة أنها لا تعترف بالشخصيات الثانوية، كل الشخصيات لها نصيب طيب من قلم الكاتب الراحل يوصلها إلى درجة البطولة بشكل أو بآخر، يعرف كيف ينبش أعماقها و يسبر أغوارها ، وكأني بدراسة عكاشة في قسم الدراسات الاجتماعية و النفسية في كلية الآداب جامعة عين شمس، ما يوضح تلك القدرة والحساسية على التقاط أوجاع المهمشين على الأرض. - منذ بداية عشقي للتجربة العكاشية في الكتابة الدرامية كنت أقرأ آراء تتعلق بغلبة الحوار على الصورة في أعمال الكاتب الكبير، و هو الأمر الذي يتحمله برأيي المخرجون الذين تصدوا لإخراج تلك الأعمال. أذكر هنا رأياً للمخرج المخضرم هيثم حقي ورد في كتابه"هيثم حقي بين السينما و التلفزيون" تحدث فيه عن أسلوب الإخراج غير الموفق الذي استخدمه المخرج إسماعيل عبد الحافظ في الجزئين الأولين من ليالي الحلمية، قبل أن يعود إلى استدراك الامر في الأجزاء التالية. * أسامة أنور عكاشة صاحب الآراء الجريئة التي آمن بها و أطلقها، فوفرت له قائمة طويلة من الأعداء و الكثير من المضايقات، يبدو في كلام الكاتب الدرامي المصري محمد صفاء عامر عنه الكثير من الدقة عندما تحدث عن خسارة مصر في العامين الأخيرين للكثير من الرموز، إلى أن رأى صعوبة تعويض عكاشة الذي يبدو و كأنه كان يجب أن يرحل! - ربما في رحيل عكاشة الذي أشعر الكثيرين برحيل جزء من ذاكرتهم و أحلامهم، دعوة مباشرة وقوية لنا كي نعيد من جديد قراءة تراثه الدرامي المشبع بالأسئلة التي لم تجد بعد إجابات شافية لها. [email protected]