2012/07/04
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام1983:
استراحت النجمة المطربة صباح، واسترحت أنا أيضاً على مقعد حجري من تلك التي تنتشر في الساحة التي يقوم على أحد أطرافها برج “إيفل”، بعد أن مشينا تحت أشعة الشمس من ساحة قوس النصر، وضاع الوقت، ولم نحس بأي تعب ونحن نتبادل حديثاً طويلاً.. طويلاً!.
يومها، كانت الدنيا قائمة قاعدة، حول برج “ايفل”، لأن رجلاً كان يهم بالدخول اليه، فإذا بالحرّاس يحيطون به مرحّبين ومهلّلين وغيرهم يندفع نحوه من بعيد ويقدّم اليه الهدايا المختلفة، وعدسات التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني توجّه اليه وتدور بسرعة لتلتقط له عشرات الصور..
ان الرجل ذهل مما حدث، وظنّ نفسه في حلم، لأنه لا شيء في مظهره أو شخصيته أو مكانته يستوجب مثل هذه الحفاوة والترحيب، إلاّ أنه سرعان ما عرف الحقيقة، وعرفها معه كل الذين شهدوا حفلة التكريم هذه، فإن الرجل المجهول شاء له حظه أن يكون هو الزائر رقم مائة مليون للبرج الحديدي الذي يعتبر من معالم باريس، ولهذا استحق كل هذا الترحيب، وتلك المجموعة الثمينة من الهدايا!.
وأقول للصبوحة:
* منذ متى لم تجيئي إلى برج “ايفل”؟
فضحكت وقالت:
ـ بدّك الحقيقة، أنا لم أرَ هذا البرج إلاّ من بعيد، أو إذا مررت من أمامه، وهذه هي أول مرة أقف أمامه.
قلت:
* وجهك خير إذاً على الرجل الذي كسب الهدايا، وأيضاً فإن مجيئك إلى أي مكان يرتبط دائماً بالمناسبات السعيدة.
قالت:
ـ لأن نفسيتي حلوة ومرحة، وأنا أحب الناس ولا أكره أحداً..
وقلت:
* ووجهك خير أيضاً في الغناء، فما من مسرح غنّيت فيه إلاّ وازدحم بالناس، تماماً كما حدث مؤخراً في لبنان، فإن المسرح الذي عرضت فيه رواية “وادي شمسين” ما كان يمكن أن يزدحم بالجماهير طوال ثلاثة أشهر، بالرغم من الظروف الأمنية القلقة التي كان يعيشها لبنان لولا أن بطلة المسرحية كانت صباح!.
ومسحة فرح خفيف ترتسم على وجهها وتقول:
ـ فعلاً، كان الازدحام مش طبيعي، وكلما طلبت أن يتوقف عرض المسرحية حتى لا يملّ الناس من رؤيتي يومياً على المسرح، كان الياس الرحباني مؤلّف ومنتج المسرحية يجيء إليَّ بكشوفات الحجز، ليثبت لي أن حفلات كثيرة محجوزة مسبقاً وهذا دليل على أن الجمهور لم يملّ بعد رؤيتي..
وأصارح الصبوحة بشيء وأقول لها:
* شوفي يا حبيبتي، أقول لك من غير أي مجاملة بأنك ظاهرة فنية فريدة من نوعها، وانت عندما بدأنا المشوار من ساحة قوس النصر، قلت لي بأنك مضى عليك أربعون سنة في العالم الفني، وأن يمضي هذا الزمن الطويل على فنانة تغنّي وتمثّل باستمرار، ولا تغيب عن أنظار الناس أبداً، ويظل لها هذا الإعجاب، فهذا هو ما أعتبره ظاهرة نادرة..
وطبعاً يطربها كلامي، إلاّ أن مسحة حزن ترتسم على وجهها وهي تقول لي:
ـ ومع ذلك، فأن أصواتاً أخذت ترتفع في بيروت من خلال الصحف، وتردّد بأن صباح تعبت ويجب أن تعتزل..
وهنا قلت للصبوحة
* ربما، كانت هناك نظرية تقول بأنه من الأفضل للفنانة أن تعتزل وهي في قمة نجاحها، بدلاً من أن تعتزل عندما يزول عنها البريق أو تغيب شمس شهرتها..
وبحزم قالت:
ـ بدّك الحقيقة، الفنان الذي يعتزل وهو قادر على العطاء لا أعتبره فناناً!.
وشددت على يدها موافقاً، وقلت لها:
* هذا الكلام سمعته قبلك، ومنذ عشرة أعوام من الموسيقار فريد الأطرش، الذي قال لي يوماً انه يرفض كل النصائح التي توجَّه اليه وتطالبه باعتزال الغناء المرهق المتعب، حرصاً على قلبه الذي كان قد أصيب بأكثر من ذبحة، والمهدّد بالتوقّف في كل لحظة، وعندما سألت فريد الأطرش عن السبب في هذا العناد، قال لي: أنا كده، مزاجي كده، أريد أن يسجّل التاريخ أنني مت على المسرح..
وقالت لي صباح:
ـ وأنا أيضاً أريد أن أموت وأنا أغنّي على المسرح، بالرغم من انني والحمد لله لست مريضة، وطالما الجمهور يحبني فسوف أظل أغنّي ولو بقي لي ربع صوت، ولكنني سأعتزل حتماً لو شعرت بأن الجمهور يرفضني أو لم يعد يقبل على حفلاتي أو المسارح التي أغنّي بها!.
.. وكنا ما زلنا على المقعد الحجري..
والناس من حولنا يعلو وجوههم الفرح، بعد الاحتفال المفاجئ على مدخل البرج الحديدي الشهير ترحيباً بالزائر رقم مائة مليون وبعضهم وقف على مقربة منّا يتأمّل صباح، بأناقتها ورشاقة جسدها وحلاوة شخصيتها، وواحد منهم تجرّأ واقترب منّا واتضح انه ايطالي وطلب من صباح أن تؤخذ له معها صورة واحدة.
وهذه هي الصبوحة.
أينما ذهبت يحيط بها الإعجاب..
ربما كان في البلاد العربية إعجاباً بها كفنانة لها شهرة وبريق، ولكنه هنا في باريس، وفي أوروبا كلها وأميركا وافريقيا، هو إعجاب بها كسيّدة جميلة، انيقة، رشيقة، مشرقة، ضاحكة، راقية ومحتشمة أيضاً، فإن صباح عمرها ما ارتدت الفساتين الفاضحة التي تعرّي جانباً من مفاتنها، ولا هي أصلاً تحب هذا النوع من الفساتين!.
وعدنا إلى المشي!.
وأشعة الشمس ما زالت تغمر باريس..
والصبوحة في ساحة برج “إيفل” تنتقل من مكان إلى آخر، وآلة التصوير الساذجة التي أحملها تلاحقها من مكان إلى آخر..
وتقف على سور منخفض يطلّ على نهر “السين” وتعود إلى الحديث من جديد..
وأقول لها:
* عيون الرجال تلتهم أنوثتك هنا أيضاً!.
فضحكت بسعادة وقالت:
ـ خي.. فيه شي أحلى للست من أن يحبها كل الرجال..
قلت:
* على أي حال انك دائمة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، جمالك وديمومته يشغل الناس، أناقتك تشغل الناس، وحتى قصص حبك تعتبر مادة لأحاديث طويلة يتبادلها الناس في أي مكان، وبالأمس كنت في “كان” وكان أكثر سؤال سمعته من العرب الذين التقيتهم هناك هو: من تحب صباح الآن؟.. وطبعاً كنت لم أرك منذ ثلاثة أسابيع، فلم أعرف آخر أخبار قلبك، ولذا كنت أردّ على السؤال بالإعتذار عن عدم توافر المعلومات لديّ للرد عليه..
وعادت تضحك وتقول:
ـ على كل حال لم تغلط، فأنا الآن ومنذ ستة أشهر أعيش بلا حب!..
وقلت لها:
* ولكن.. أنت كيف تنظرين إلى الحب..
أجابت:
ـ أنا أحب فني وعملي قبل كل شيء. وحب الرجل لا يعتبر شيئاً إلى جانب حبي للعمل، صحيح انه كانت لي حكايات حب قوية وطويلة، ولكن حبي للفن يتضاءل أمامه حبي لأي رجل، مهما كان هذا الحب قوياً، وفعلاً فإن الرجال الذين يرتبطون بي حباً أو زواجاً تتملكهم الغيرة الشديدة من فني عندما يكتشفون مقدار حبي له، لذلك تسوء العلاقات بيني وبينهم، ومن هنا فأنا أفضّل أن أعيش وحدي، لكي أكون متفرّغة لحبّي الوحيد الذي هو الفن!..
قلت أسألها:
* يعني، هل سبب طلاقك من كل أزواجك هو غيرتهم من فنّك؟!
وعادت ملامح الفرح إلى وجهها وهي تقول:
ـ بيني وبينك، أنا لا أحب أن أكون سجينة بيت الزوجية، وعندما أرى بأن الرجل يريد أن يكون هو الآمر الناهي في هذا البيت، أو يسعى لأن يفرض رأيه أو ارادته عليّ، عندئذٍ أشعر فعلاً وكأنني مكبّلة بقيود السجن، ولا يكون أمامي إلاّ الهرب من السجن، أي الخلاص من قيود الزواج!.
واعترضت على ذلك قائلاً:
* ولكنك تعودين بعد مدّة إلى السجن بملء اختيارك وبحماس أيضاً!.
وقال:
ـ على كل حال أنا إنسانة عادية، ومثل أي إمرأة أحتاج إلى أن يكون هناك رجل في حياتي، وأرتبط بالرجل الذي أحبه عندما أجده، ولكن “ما ذنبي” إذا كان هذا الرجل الذي أحببته يتغيّر فجأة ويأخذ في إزعاجي؟!
وأسأل الصبوحة:
* بصراحة يا عزيزتي، حينما تختارين رجلاً للحب أو للزواج، فما الذي يعجبك فيه؟
فتجيب:
ـ أكثر ما يجتذبني إلى الرجل صدقه ورجولته والكَرَم بدون تبذير والأناقة، ولكن قبل كل شيء يهمّني في الرجل ذكاؤه وحلاوة حديثه، وأبداً لا أستطيع الانسجام مع رجل غبي أو لا يحسن الكلام الجميل.
قلت:
* طيّب.. أمامنا عدّة رجال تزوجتهم وانفصلت عنهم بالطلاق، فماذا لو أخذنا كل واحد منهم على حدة لنعرف أي سبب أبعدك عنه أو أبعده عن قلبك، ونبدأ بالزوج الأول نجيب الشماس..
قالت:
ـ لا أدري لماذا تزوجته ولماذا طلقته، كنت صغيرة ولا أُحسن التصرّف، ولكن يكفي انني أنجبت منه أجمل ابن..
قلت:
* وأنور منسي؟
أجابت:
ـ كان فناناً عظيماً ولم يأتِ مثله كعازف كمان، وحدث اندماج بيني وبينه وتزوجنا وأنجبنا ابنتنا “هويدا”، ولكن بعد الزواج اكتشفت انه لاعب قمار مدمن، ولم يكن يأتي إلى البيت أبداً..
قلت:
* وأحمد فراج؟
أجابت:
ـ كان رجلاً ممتازاً وأية فتاة في الدنيا تتمنى أن يكون زوجاً لها، وما أبعدني عنه هو أنني لم أستطع أن أتبعه في اتجاهه الديني..
قلت:
* ورشدي أباظة؟
أجابت:
ـ شاب بيجنّن، وكاد أن يجنّنني معه، وآثرت أن أنفصل عنه حتى لا ذهب ضحية جنونه في حبي..
* وجو حمود؟
ـ انه كان ولا يزال صديقي ودمه خفيف جداً، ولكنه اتجه إلى السياسة وأصبح نائباً، وأرادني أن أتفرّغ لحياتي الزوجية معه، وكان ذلك صعباً عليّ، لأنني لا أترك فني من أجل أي إنسان في الدنيا..
* وأخيراً.. وسيم طبارة؟
وقالت صباح:
ـ وسيم شاب ذكي، ولكنه بحكم سنّه ـ وهو أصغر مني ـ كان كثير الاهتمام بالأمور التجارية، والأشياء اللاسلكية التي لا أفهم فيها أبداً، وكان من الطبيعي أن ننفصل خصوصاً وأنه هو الآخر لم يفهم أن حياتي الفنية هي الأهم عندي وأنني أريدها بلا أية قيود!.
وكانت أقدامنا قد تعبت من الوقوف ووجّهت إلى الصبوحة السؤال الأخير:
* والآن.. أليس في الأفق مشروع زواج جديد؟
فصرخت:
ـ لأ، دخيلك، تعوّدت على الحرية..
.. وننهي مشوارنا في باريس!.
ويعود كل منا إلى فندقه، ولكن بالسيارة!.
ولكن ونحن في السيارة، كانت العيون تتجه إلى سيارتنا من ركاب السيارات الأخرى، وتكاد أن تلتهم أنوثة الصبوحة، التي تظلّ صبوحة سواء في بيروت أو باريس أو سطح القمر!.