2013/05/29
عبد القادر القصاب- تشرين
(اخترتَ يومَ الهولِ يومَ وداعِ)
عرفته الشاشة شاباً وسيماً أنيقاً، تزدان به عيون الأخبار، وتتحلّى به صدور البرامج، ويشيرُ إليه الناس، ومرّت العقود وهو هو، ما غيّرتْ السنوات من شمائله، وإن غيّر المرضُ منه القسمات، ولكن خلفَ هذه الصورة الزاهيةِ كان يسكن طفلٌ كبير، تعصف به كلمةٌ، وتلقيه كلمة، وتأخذ بيده إلى الملكوت كلمات.
(ولله مني جانبٌ لا أضيعُهُ وللهو مني، والبطالة جانبُ)
كان جانبُ العمل، حاشا أن يضيعه، فهو يُعِدُّ للأمر عدّته، مرأى يحترم به أعينَ المشاهدين، ومسمعاً يحترم به عقول السامعين، فالمظهر اللائق، وقراءة ما يريد أن يقرأ، وفهم ما يريد أن يوصل، لابدّ منها ولا مَعدِل عنها، والوقت كالسيف، ذلك دأبه من لدنْ شبَّ إلى أن دبّ، فإذا فرغَ ركنَ، هو وقلةٌ من الأصدقاء إلى مكان يأكلون ويتحدّثون، وقد يحرّكونه فتندّ منه الأحرف، وتتصايح منه الألفاظ، ويعودون فيضحكون، (وبراءة الأطفال في..).
ذات يوم كان القدر يقرع الباب، وما كان يحتاج أن يفتح له، فقد دخل قوياً قادراً فاقتعد ثنايا القلب، وافترش حنايا الروح، وأقسم لا براح، ولم يكابر لأنه يعرف أنه لا قبل له أمام السيل الهادر والعاصفة الهوجاء، والقدر الجارف، بذل ما لا يُبذل، وبدّل ما لا يبدل،وطفق يزرع الرياحين، وعيناه بأفق السماء، شهورٌ وأغلق القدر الباب، ومضى إلى غير درب، فأسرع ونادى.. ولا مجيبْ، (والحبُّ ليس رواية شرقية..).
ما الذي تركته فيه هذه المدية الصارخة، والطعنة النجلاء، لم يفتح جرحه مرّة، ولم تجأر أوردته بشكواه، بل طوى القلب، وألجم الفاه، وأزمع اللقاءُ لا لقاء.
أي سرّ انطوى بيته عليه؟ لقد حمله معه إلى البيت البعيد.
وبعدُ ما كانْ؟
أكان أرمنياً أم دمشقياً ميدانياً؟ وكان مسيحياً أم مسلماً؟ كل ذلك كان، لم يفلسف رأياً، ولم يجنح إلى تنظير، بل وُهبَ إيماناً بعروبته وشآمه كإيمان العجائز، وقد رأى من هو أدنى منه موهبة، وأقلّ قبولاً، يرحل هنا وهناك، يبتغي عرض الدنيا، وزخرف الحياة، فلم يجنح له قلب، ولم تطرف له عين، فقد كانت جنته جنته حتى النفس الأخير.
(إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لاشكّ فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تُسامتُها وتحاذيها).
أبا يوسف!
ويعزُّ النداء
لقد جئت وحيداً، وعشت وحيداً، ورحلت وحيداً
(ونعاكَ في عصف الرياح الناعي).