2012/07/04
محمد خالد - دارالخليج
هو فيلم سياسي بامتياز، ولكنه محكي بلسان اجتماعي، قرية لبنانية صغيرة تحمل منذ القدم ثنائية العيش المشترك: مسجد وكنيسة - شيخ وقسيس - هلال وصليب - مقبرة مسلمة ومقبرة مسيحية يفصل بينهما طريق ترابي صغير، الأعياد مشتركة، الفرح المشترك فرحان، الحزن المشترك نصف حزن .
ذات يوم كان باب المسجد مفتوحاً فدخل قطيع من الأغنام إلى المسجد فخرب محتوياته البسيطة . انتفض الشاب المسلم المتهور واعتبر أن هناك مؤامرة مسيحية، فحمل عصاه وذهب إلى مدخل الكنيسة وكسر أيقونة على بابها، وكادت أن تحصل فتنة بين الرجال إلا أن المرأتين - المسلمة والمسيحية - هما اللتان منعتا حدوثها، ويصاب المتفرح بالحيرة، إذ يجب أن تكون عميلاً للمخابرات الأمريكية (CIA) أو منجماً أو محققاً عربياً في جهاز أمن الدولة لكي تميز الخروف المسلم عن الخروف المسيحي منعاً للفتنة .
الأساس في الحياة اليومية لهذه القرية هو التعايش بين ابنائها بمحبة ووئام على قاعدة: الدين لله والوطن للجميع، لكن تتخلل وتيرة الحياة بعض العنعنات الطائفية التي يؤججها الرجال وتطفئها المرأة في كل مرة، ورغم أن البطولة جماعية إلا أن البطل البارز هو المرأة في كل الأزمات .
يلفت النظر وجود طفل صغير لا يتكلم كلمة واحدة رغم أنه موجود في كل مشهد من الفيلم ويسير على عكازتين . لا نعرف السبب لإعاقته هل هو شلل الأطفال أم شلل الألغام “الإسرائيلية”، المخرجة نادين لبكي لا تقول لنا من زرع هذه الالغام رغم وجود تحذيرات على جوانب الطريق: (احذر . . حقل الغام) إنها الألغام “الإسرائيلية”، فقد كان هناك احتلال “إسرائيلي” عام 1982 وبقاياه مازالت مدفونة في الأرض تنفجر بين الفترة والأخرى، سؤال تسأله أنت، وتجيب أنت عنه .
بعض الأجوبة الصعبة مطلوبة من المتفرج لا من الفيلم، والرموز الشعبية والسياسية القابلة للتأويلات مبثوثة من أول الفيلم إلى آخره . لقد اضحكنا الفيلم كثيراً، وأبكاناً كثيراً، ولكن للضحك والبكاء ثمناً، إذ لا تستطيع أن تكون محايداً، بل شريك في هذه القرية - الوطن بكل ايجابيات شعبها وسلبياته .
المناوشات الصغيرة كانت تحل بسهولة، إذ تأخذ الأم المسلمة ابنها ليعتذر لأخيه المسيحي، وتأخذ الأم المسيحية ابنها ليعتذر لأخيه المسلم .
الفتنة الكبرى جاءت عندما قتل شاب مسيحي خارج القرية، فاحضر أخوه جثته ليلاً إلى بيت الوالدة التي بكت كثيراً ولكن حكمتها وشجاعتها جعلتها تؤجل إعلان الوفاة حتى لا يخرج رد الفعل خارج نطاق السيطرة، وعندما علم الأخ الأكبر بمقتل شقيقه افترض فوراً أن القاتل مسلم وحمل سلاحاً لينتقم من أول شخص مسلم في القرية، ولكن والدته منعته بالقوة بأن أطلقت النار على ساقه ومنعته من تنفيذ الفتنة
.
عندما أذيع خبر الوفاة توافدت القرية- مسلمين ومسيحيين - للتعزية بابن قريتهم وسجل القاتل مجهولاً، والقتيل شهيداً للجميع . وفي الجنازة حمل المسلمون والمسيحيون النعش وساروا نحو المقبرة، وعندما وصلوا أمام المقبرتين المتقابلتين اربكتهم الحيرة، أين يدفنون الشهيد؟ وجاء الجواب عفوياً: أن يدفن في منتصف الطريق بين المقبرتين كجسر عبور بين قبور الأجداد بغض النظر عن مذهبهم، فهم يتواصلون ليل نهار تحت الأرض منذ مئات السنين، الآن جاء الأحفاد ليكونوا جسراً فوق الأرض لتتحد المقبرتان في مقبرة واحدة .
من الذي أوقف الفتنة والحرب الأهلية؟ إنها المرأة، إنها الحديد الطري الناعم في حياتنا كلها .
رمزية المشهد الأخير كانت رائعة:
الأم المسلمة تعتنق المسيحية، والأم المسيحية تعتنق الإسلام، تقول الأم الأولى لابنها: أنا أمك المسلمة قد أصبحت مسيحية، هل تقتلني؟ وتقول الثانية لابنها: أنا أمك المسيحية قد أصبحت مسلمة، هل تقتلني؟
لا يسع المرء إلا أن يفكر بعمق:
* على أرض هذه القرية تتكشف الحقيقة: هنا التعايش المشترك وهنا الموت المشترك .
* لقد اكتشف الطرفان - المسيحي والمسلم - أن النضال من أجل الحرية والمساواة والكرامة والإنسانية أرخص بكثير من الحرب الطائفية .
* لقد اتضحت أكثر مقولة القائد الألماني بسمارك: “الحرب الأهلية هي الانتحار خوفاً من الموت” .
* إذا هاجر المسلمون من البلد، أصبح لبنان دار أيتام مسيحية . وإذا هاجر المسيحيون من البلد، أصبح لبنان دار أيتام إسلامية . في أول الفيلم توقعنا أن نتسلى بقصة قرية صغيرة، في منتصف الفيلم اكتشفنا أن هذه القرية هي لبنان . . في نهاية الفيلم تأكدنا أن هذه القرية هي الوطن العربي كله .
(هلَّق لوين)؟
نحو وطن المساواة والعدالة، وحده بغض النظر عن الدين أو المذهب أو اللون أو الجنس أو العدد، هو الحل لا أقلية ولا أغلبية، كل مواطن هو أغلبية، شخص واحد شجاع يصنع أغلبية، شهيد القرية وحده صنع أغلبية، هذا ما حكاه الفيلم من دون أن يحكي .
نادين لبكي . . شكراً