2012/07/04
مِلده شويكاني - البعث
قدمت المؤسسة العامة للسينما بالتعاون مع مؤسسة جذور والمديرية العامة للمتاحف والآثار فيلم «نوافذ الروح» بلغة سينمائية مختلفة وغير معتادة وبعيدة عن كل الأفلام الوثائقية المتعلقة بالآثار، إذ جمع ما بين السينما التسجيلية والروائية، واستطاع أن يدخل مباشرةً إلى المتلقي فيستحوذ على اهتمامه وتفكيره من خلال السرد الشفهي الذي قدمه النجم جمال سليمان بأسلوب شائق ولغة فصحى ومفردات قريبة من الناس، فأخذ دور الراوي في هذا الفيلم وتشارك في البطولة مع المكان الذي كان الحامل الروائي والدرامي للأحداث التي تلخص قصة الحضارات منذ آلاف السنين وتعود إلى التاريخ الغابر.
ولم يتخذ السرد طابع الوصف الانطباعي فقط، وإنما انعطف نحو التحقيق فنرى أثناء العرض أن النجم جمال سليمان يتجول في مكتبة الأسد يبحث عن معلومات عن موقع إيبلا، وفي مواضع أخرى كان يجري لقاءات مع أستاذ التاريخ محمد محفل، والفنان التشكيلي المعروف إلياس زيات، وأستاذ التاريخ د. سامي مبيض، ومضت رحلة السرد مع جمالية الصورة التي صورتها الكاميرا من زوايا مختلفة وفي أوقات زمنية متعددة، أجملها في ساعة الغروب تزامنت مع نغمات حازم العاني الساحرة، انطلقت الرحلة من مملكة ماري على ضفاف الفرات فبعد أن تحدث عن أهميتها وآثارها، رصد ومضات من حياة الناس البسطاء فيها، تطرق إلى يومياتهم وطقوسهم المتبعة في الزواج والأهازيج التي يرددونها والأزياء المتعارف عليها حتى واقع التعامل التجاري فيما بينهم، ثم تابعت الكاميرا رحلتها لتحط في رحاب أوغاريت وكيف اخترع الكنعانيون الكتابة، والرقيم الطيني ومن ثم إلى تدمر هذه المدينة الغنية بأوابدها وأعمدتها فعلّق على مكانتها التاريخية والدور السياسي الكبير الذي لعبته في حربها ضد الرومان، وفي أجواء معتمة دخل جمال سليمان مع الكاميرا إلى مدافنها، وتحدث بأسلوب مؤثر حزين عن عالم الموت وعن الطقس الجنائزي المتبع آنذاك ابتداءً من الموسيقا التي ترافق الميت في الانتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأبدية، والانضمام إلى الأشخاص الذين كان يحبهم وسبقوه، ثم انتقل إلى حلب كونها مدينة قديمة لها دور تجاري فعّال، ثم وصلت الكاميرا إلى صيدنايا ومعلولا، فزارت الأماكن التي مشت بها القديسة تقلا وهي تركض خائفة ممن يلاحقونها يريدون قتلها، لكن الله حماها فانشق الجبل وهربت ثم تحدث عن معاناة المسيحيين الأوائل كون سورية مهد الرسالات الدينية، كما شغلت أمواج البحر الهادئة حيزاً من الفيلم فتكلم جمال سليمان عن مكانة جزيرة أرواد، إذ كانت الميناء الأول الذي يستقبل السفن التجارية، وترك الحرية للكاميرا لتصوَّر حياة الصيادين البسيطة والمراكب الصغيرة التي يعبرون بها عباب المياه وينتقلون إلى الشاطىء لبيع الاسماك، ومن خلال حديثه تطرق إلى دور الفينيقيين في نشر الحضارة الإبداعية التي غدت منبعاً ثراً للفنانين التشكيليين .
بعد ذلك تابع رحلته ليصل إلى المدن المنسية التي تقع ما بين حلب وإدلب التي نسيها الزمن بعد الزلازل التي تعرضت لها، إلا أنها كانت شاهدة تعج بالحياة، وفي نهاية الرحلة حط الرحال في مدينة دمشق أقدم مدينة في التاريخ، كانت موضع العلماء والأولياء الصالحين وملاذ الشعراء، فمضى جمال سليمان في حاراتها وأزقتها وأقواسها، ودخل إلى المسجد الأموي الكبير فصورت الكاميرا زوايا مختلفة من جمالية فن العمارة فيه، وأشار إلى مكانته الدينية في العالم، ثم تحدث عن دور المساجد التعليمي، ومن جبل قاسيون تكلم عن هذه المدينة المأهولة بالسكان، التي تفتح أبوابها للجميع ، ثم زار أسواقها القديمة، ومنها سوق الحميدية وتوقف مطولاً عند صناعة المجوهرات التقليدية والشرقيات، وختم رحلته بقراءة قصيدة لنزار قباني بأسلوب مؤثر ينم عن رومانسية جمال سليمان:
«أنا مسكون بدمشق
حتى حين لا أسكنها
أولياؤها مسكونون في داخلي
حاراتها تتقاطع فوق جسدي
قططها تعشق وتتزوج.. وتترك أطفالها عندي»
رافقت الفرقة السيمفونية الوطنية بعض لقطات الفيلم ، يذكر أن الفنان عمر أبو سعدة كتب السيناريو برؤيته الخاصة وجاء إخراجه بتوقيع المخرجين الليث حجو وعمار العاني.
تميز الفيلم بقراءة شفافة تضافرت مع أدوات وتقنيات حديثة في عالم الصورة البصرية، لصنع فيلم سينمائي وثائقي وتسجيلي في آن واحد وليسجل نجاحاً للسينما السورية يلخص ماضينا العريق الذي يدفعنا دائماً نحو الأمام، ويثير في أعماقنا تداعيات لمراحل وأشخاص وذكريات..