2017/10/31
خاص بوسطة - بشار عباس
مع بداية الجزء الثّاني من مسلسل صحّ النّوم (الكاتب المَجيد نهاد قلعي) تظهر شخصيّة "غوّار" وقد تحوّلت بشكل حادّ ومختلف تماماً، إنّه لم يعد راغباً بتدبير المقالب، وأقلعَ عن الدّهاء نهائيّاً، و" انتزع" وصار صالحاً على حدّ وصف أبي عنتر، لقد أمضى سنتين في السّجن قرأ خلالها كتاب (جنوح الأسباب) أو (أسباب الجنوح) كما يصحح له العنوان حسني البورظان، وغيرها من كتب لم يفهم منها شيئا، ولكنّ تأثيرها عليه كان عميقاً، فلم يصبح صالحاً وحسب، وإنّما أيضاً يحاول اصلاح المجتمع مستنداً على موضوعات تلك الكتب التي تتناول "التسطّح الإنفلاشي في البيئة الديماغوجيّة" و "المجتمع العمودي وانكسار الأشعّة الاصطهاجيّة" وفي سبيل حلمه بمجتمع أفضل يقوم بتغيير اسم الحارة إلى نقيضها فتُصبح "حارة الإصلاح"، كلّ ذلك أمام استنكار ورفض "أبو عنتر" الّذي يصف هذه الأيديولوجيا الجديدة لصديقه بأنها عديمة "الفكاهة والمازيّة" ولكنّه يقف إلى جانبه ويساعده، كما كان العهد به دائماً.
بناء الشّخصيّات الثّلاثي في الجزء الأوّل (غوّار – فطوم – حسني) و (غوّار – ياسين – أبو عنتر) سوف يتبدّل الآن في هذا الجزء الثّاني إلى بناء ثلاثي جديد (غوّار – الأستاذة صباح – أبو عنتر) في حين يلتحق ياسين بثلاثيّة أخرى (ياسين – فطّوم– أبو رياح) إنّ إعادة الاصطفاف الدّرامي تلك ناجمة عن غياب هدف الشخصيّة؛ فطّوم تزوّجت الآن، ولم يعد حسني غريماً لغوّار، بل أصبح مختاراً جديداً للحارة بالوكالة، داعماً له ولمشروعه الإصلاحي، وسوف يقضي غوّار تقريباً أربعة أخماس زمن هذا الجزء الثاني في مواصفات شخصيّة بعيدة تماماً عن تلك الّتي عرفها الجمهور في الجزء الأوّل، وها هو يخرج من السّجن في بداية رمضان؛ في اليوم الأوّل من الشّهر يقع الصّائمون في ورطة؛ أبو كلبشة مع مساعده ينتظران سماع مدفع الإفطار مع أنّهما يعلمان أنّ وقت الإفطار قد حلّ منذ ساعة، يتصل بدري بيك بالرّجل المسؤول عن إطلاق المدفع فيقولون له أنّه ذهب للإفطار منذ ساعة، يسألهم: ولماذا لم تطلقوا المدفع إذاَ؟ يُجيبون: ننتظر الأذان، ياسين وفطّوم أيضاً ينتظران الإفطار، يتّصل ياسين بالإذاعة ليستفسر عن التأخير، ويُخبرهم بأنّهم يقتربون من وقت العشاء، فيكون جواب الإذاعة أنّهم ينتظرون سماع المدفع، أبو رياح من نافذة بيته في الليل يظهر برأسه وينظر إلى أعلى منادياً المؤذّن: لماذا لم تؤذن للمغرب، فيجيبه: أنتظر المدفع، الّذي ينتظر بدوره الإذاعة، والتي تنتظر:الأذان.
السلسلة المشهديّة المتعلّقة بالأذان تتصل بشكل جوهري بمقولة القصّة، وسوف تكون تعبيراً مجتمعيّاً عن شخصيّة غوّار الّتي تخلّت عن ميّزاتها، غريزتها، ومواطن القوّة والذكاء فيها، وذلك في سعيها وراء أوهام الإصلاح، البراعة المبهرة للكاتب في تقديم أفكار فلسفيّة شديدة الراهنية، وبالغة التّعقيد، عبر شخصيّات محليّة أصيلة وبسيطة، ومهارته في طرح أهمّ الاتّجاهات الفكريّة الّتي تعدّ انقلاباً في الحياة الفلسفيّة الاوروبيّة، الحداثوية وما بعد - حداثويّة، كلّ هذا يجعل من الضّروري اقتفاء جبل الجليد العملاق الّذي يختفي معظمه تحت سطح الماء، فلا يظهر إلّا جزء بسيط منه فوق سطح هذه الكوميديا الفذة.
غوّار لا ينفكّ يندد بعقليّة أهالي "حارة كلّ مين إيدو ألو" فهم لا يحبّون بعضهم، أو بتعبير آخر:غير موحّدين، يصرفون وقتهم كلّ مساء في مقهى صحّ النّوم للاستماع إلى الحكواتي، وعند باب المقهى يخلعون أحذيتهم قبل الدّخول في إيحاء قوي للمؤسّسة الدّينيّة، فماذا يسمعون هناك؟ إنّهم ينقسمون على أنفسهم بين مؤيّد لعنترة، وبين مؤيّد لغريمه عمارة، وعند تفصيل القبض على عنترة وتقييده، يعترض أنصاره ويُطالبونه بأن "يفكّه" فينشب صراع بين الفريقين؛ انقطاع الجمهور عن الحياة المحيطة بهم، وانتمائهم لسرديّات وقعت منذ عشرات القرون، واتخاذهم لبعضهم البعض حلفاء أو أعداء بناءً عليها، إنّما يُحاكي إنكارهم للملاحظة المباشرة بالعين المجرّدة لغياب الشّمس وحلول وقت الافطار، وانتظارهم بدلاً عنها للمدفع، أو للإذاعة، أو للأذان.
الأساس الفكري - الفلسفي للعمل:
يوضح الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844- 1900) مفهوم " العدميّة" كالتّالي: هناك تناقض بين العالم الّذي نقدّسه ونباركه، وبين العالم الّذي نعيش فيه ويشكّل واقعنا الفعلي، وهو تناقض يقتضي ترجيح أحد العالمين أو الموقفين على الآخر، فإمّا التخلّي عن العالم المفارق (المفارقة تعني وفق مارك سينسبري: خاتمة غير مقبولة مستمدّة من مقدّمات ومنطق قد يبدو مقبولاً) وإمّا التّخلّي عن العالم المحايث (المحايثة وفق المدرسة السكولائية ووفق كانط هي: حضور الشيء في ذاته) وعندما تضطر حضارتنا للتخلّي إمّا عن المفارق – الوهمي – أو عن المحايث – الواقعي- فإنّها تختار الخيار الثاني، أي التخلّي عن الواقعي لصالح الوهمي.
العدمية هُنا لا تعني العدم، أي: اللاوجود أو اللاقيمة أو حتّى اللامعنى، بل تعني "قيمة عدم"، والحياة تتعرّض لهذه القيمة بمقدار ما يجري نفيها وتبخيسها.
وفق مارتن هايدجر ( 1889- 1976) فإنّ لعدميّة نيتشه أربعة أطوار أو أشكال:
الطّور الأوّل: العدميّة النّافية، وتقوم على انكار الحياة والوجود واحتقار الجسد، وكبت الغريزة، وحجب الرغبة باسم قيم مطلقة زُهديّة، ومثل عليا مفارقة، أي باسم تأويلات وتقويمات تقدّم نفسها باعتبارها التّقويم أو التّأويل الحقّ.
الطّور الثّاني: العدميّة الارتكاسيّة، وتكون بمثابة ردّ فعل ضدّ العالم المفارق (وفق نيتشه يقع جان جاك روسّو وكارل ماركس في إطار هذه العدميّة الارتكاسيّة) وهي تقوم بتبخيس القيم المقدّسة، والمثل العليا، فينفي العدمي الارتكاسي وجود المتعالي، والخير المطلق، والحقيقة المجرّدة، أي: كلّ أشكال التّعالي والمفارقة، وكل ذلك يتم باسم "قيم انسانيّة مُفرطة في انسانيّتها" فيتمّ احلال الأخلاق محلّ القيم اللاهوتيّة، وقيم التقدّم والديمقراطيّة والعقلانيّة محل القيم والمثل العليا الزهديّة، ولكنّ ذلك لا يعني تغيُّراً في جوهر العدميّة؛ فالأمر يتعلّق بنفس الحياة الارتكاسيّة، وبجوهر العبوديّة الّتي كانت قد انتصرت في ظلّ هيمنة القيم اللاهوتيّة، فتُواصل استمرارها في ظلّ القيم الانسانيّة؛ إنّ هذه العدميّة الجديدة قد توغّلت خطوة إضافيّة في صحراء العدميّة، فنحنُ نتوهّم بأن رؤيتنا أصبحت أكثر وضوحاً مما مضى، ولكن في الحقيقة ننتمي لنفس القيم البائدة، والتي بتنا لا نراها بتأثير وهم أنّ القيم الجديدة مقنّعة بالعلم، وبالتّفسير العلمي للوجود.
الطّور الثّالث: العدميّة السّلبية، وتقوم بتبخيس الوجود سواء كان مفارقاً، أو محايثاً، ويرى جيل دولوز (1925-1995) أن هذا المعنى الثالث للعدميّة يتفرّع عن المعنيين السّابقين ويفترضهما في الوقت نفسه؛ ففي المعنيين الأوّل والثّاني يتمّ تبخيس الحياة باسم قيم عليا لاهوتيّة تارةً، ووضعيّة إنسانيّة تارةً أخرى، أمّا في هذا الطّور الثالث فالانسان يبقى وحيداً في الحياة، مع حياة جرى تبخيسها وتستمرّ في عالم بدون هدف وخالٍ من القيمة والمعنى، فالعدمي بهذا المعنى يرى أنّه لا جوهر ولا طائل ولا جدوى من أي شيء، ويلقّب نيتشه هذا "العدمي" بالانسان الأخير؛ فلقد تحرّر من زيف العالم المفارق – بمستوييه اللاهوتي او الإنسانوي الوضعي- وتحرّر من اكراهه، ولكنّه عاجز عن ابتكار قيم جديدة ولذلك يعيش في العدم المحض.
الطّور الرّابع: يُسميّه نيتشه "العدميّة الفاعلة" ويعتبره إيجابيّاً، وفاعلاً، وخيّراً، ويُعلن الانتماء إليه بكلّ إرادته، وهذا ما يقصده عندما يقول عن نفسه" أنا أكبر عدمي في أوروبا" والّتي تدور بمجملها حول:إرادة القوّة.
يقول نيتشه في أفول الأوثان "إنّ الأنانيّة تنتمي إلى جوهر النّفس النّبيلة، وأقصد بها ذلك اليقين الرّاسخ بأنّ كائناً مثلنا يجب أن تخضع له كائنات أخرى"
إنّ مزيداً من التّوضيح لفكرة نيتشه يمكن الوقوف عليه مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930-2004) ففي المؤتمر المنعقد بجامعة جون هوبكنز بالولايات المتّحدة سنة 1966، افتتح دريدا عهد "التّفكيك" واضعاً الفلسفة أمام خيارين لا ثالث لهما لرؤية العالم: الأوّل هو رؤية مركزيّة العقل ويمثّلها جان جاك روسّو، والثّاني هو خيار الرؤية التّفكيكيّة العدميّة ويمثّلها نيتشه؛ ثمّ إنّه ينحاز للرؤية الثّانية، يقول "إنّ المنحى البنيوي للمباشرة والفوريّة المبتوتة وقد تمّ توجيهه ناحية الحضور المستحيل، أو الحضور المفقود للأصل الغائب، قد أضحى محزوناً ونوستالجياً ومسكوناً بالشّعور بالذّنب، وهذا هو الوجه الّذي يمثّله روسّو من فكرة اللعب، ويمثّل الوجه الآخر الاثبات النيتشوي Nietzchean Affirmation البهيج بلعب العالم وبراءة الصّيرورة؛ إثبات عالم من علامات بلا خطأ، وبلا حقيقة، عالم مبذول باستمرار لتأويل نشط وفعّال".
والإثبات النيتشوي البهيج أو المرح هو اثبات ارادة الحياة، حياة الغريزة الطّبيعيّة، على النّحو الّذي كان يحياه قدماء الإغريق قبل سقراط، ويرمز لها نيتشه بالاله ديونزيوس، مقابل "نفي" ارادة الحياة ممثلاً بالزّهد ونكران الذات.
في كتابه "هذا هو الإنسان" يقول نيتشه: "الاستجابة الإثباتيّة " للحياة بما في ذلك مشكلاتها الأكثر قسوة، ارادة حياة مبتهجة بالتّضحية بأرقى أنواعها لصالح ثرائها الّذي لا ينضب هو ما أسمّيه ديونزيوسيّة، أنا آخر تلاميذ ديونزيوس" ويقول أيضاً "في الاستجابة الاثباتيّة يكون النّقض والتّدمير شرطين أساسيين".
الاستجابة الاثباتيّة بالمفهوم النيتشوي كنقطة تحوّل للشّخصيّة:
يُمكن تأمّل نقطة تحوّل الشّخصيّة Turning point الّذي تعرّض له بطل القصّة في بداية الجزء – القصّة؛ هذا التحوّل الّذي طرأ على الشّخصيّة عندما قرّر التخلّي عن أسباب الذكاء والقوة، كنقيض تامّ للاستجابة الاثباتيّة، والتي ستكون هي التّحوُّل الّذي يبّنى عليه نهاية القصّة، ومقولتها أيضاً.
إنّ أبا عنتر يُمكن أن يكون لسان حال الجمهور، وذلك في مطالباته لصديقه أن "ارجع فهلوي متل ما كنت" ويطلب منه ساخراً "افطر اصلاح واتعشّا استكامة" فهذه الأوهام الإصلاحيّة ليست سوى "ألبندات بلا فكاهة وأستمزمُز" شخصيّة أبي عنتر هنا تمثّل مندوباً عن الجمهور في القصّة، وقد أخذ يضجر من بطله، بل ويشعر بالاستفزاز نيابةً عنه من تطاول كلّ الحارة عليه، هو الذكي الّذي يستطيع أن يلعّب الجميع على أصابعه، فيحصل منه أخيراً على وعد بأن تكون هذه اللوثة الإصلاحيّة سارية المفعول خلال شهر رمضان فقط، وبذلك يحصل الجمهور نفسه على موعد لاستعادة بطله في نهاية المطاف، فيرتفع منسوب التّشويق الدّرامي إلى أعلى نقطة، وينتظره الجميع؛ ليس متى سوف يرجع إليهم، فذلك معروفٌ تصريحاً بالحوار، ولكن: كيف سيرجع إليهم ؟
الرغبة بالإصلاح: محنة الشخصيّة:
يصطدم غوّار بجهل النّاس وشرّهم، أخلاقيّاته اليسوعيّة الجديدة تفشل تماماً أمام جشع الجميع، يعثر له حسني البورظان على عمل عند محامي، فيحاول "الإصلاح" أكثر من مرّة بين المتخاصمين القادمين لرفع دعاوى بدلاً من أن يستثمر في خلافاتهم كما تقتضي هذه المهنة، فيكون مصيره الطّرد، وعندما يشتغل عند أبي رياح اللحّام، فإنهّ يرفض الغش، ويذكّره "أليس اسمها ملحمة الأمانة" فيؤكّد له أبو رياح "ولهذا السّبب يجب أن نبيع بأمانة لمصلحة المحلّ، وليس لمصلحة الزبون" فيترك هذا العمل أيضاً.
يتطرّف غوّار أكثر في همّه الإصلاحي، ويتعمق أكثر في مشروعه الرومانسي؛ يقرّر أن هذا المجتمع يحتاج إلى إصلاح، فيفتتح: دكّان الإصلاح.
في هذه الدكّان يتحقّق رضوخ غوّار ل" إرادة الضّعف المدثرة بعباءة الأخلاق" وفق التّعبير النيتشوي، ويلاقي كلّ أنواع الاعتداء والإنكار من المجتمع، يدخل السّجن لأنّه عثر على محفظة، إنّ أبا عنتر قال له لحظتها وهو يتناولها عن الأرض"أجت الرزقا" غير أنّ غوّار يسلّمها للمخفر، فيتعرّض للاعتقال ريثما يظهر صاحبها، وهناك يلتقي بسجين يتألّم من عضّة ارتكبها بحقّه أبو كلبشة، ولاحقاً عندما يحاول حسني – بصفته مختار بالوكالة - اقناع أبو كلبشة بالتوقّف عن العض، يُجيبه بأنّها عضّات بسيطة لا تُفسد للودّ قضيّة.
الظلم الّذي تمارسه كلّ الحارة يتزعّمه الآن ياسين "ياسينو" فيبدأ بنشر الاشاعات عن غوّار، وفي مشهد له دلالة يقصده أبو عنتر فيجده يكنس الأرض وثمّة كمّامة على وجهه، فيسأله، لماذا تضع هذه؟ فيُجيبه ياسينو: لأنّ الغبار قد يُفطر، فيسأله أبو عنتر وهو يصفعه: الحكي ع العالم ما بيفطّر؟
إنّ كلّ جريمة، وكل سرقة تحدث في الحارة أصبحت تلتصق باسم غوّار، فقط حسني المثالي، والأستاذة صباح مؤلّفة كتاب "أسباب الجنوح" ومساعدته في دكّان الاصلاح هُم من يؤمنون به، أمّا السّند الحقيقي له فهو أبو عنتر المتحرّر من منظومة الكذب الاجتماعي، وذلك في مواجهة قاسية مع الجميع، بدايةً من الأشخاص، وانتهاءً بالقبقاب الشّهير الّذي أخذ أيضاً يسبب له المشاكل؛ حتّى "الأشياء" باتت تتآمر عليه.
ثمّ تتعرّض "دكّان الاصلاح" للسّرقة، ويصل إلى نهاية طريق مسدودة، لقد يأس من البشر ومن الإصلاح، واكتشف جوانباً مظلمة في الآخرين كان يظنّها موجودة لديه هو فقط، فيقرّر الانتحار، ويفشل عدّة مرّات.
الاستجابة الاثباتيّة كمفهوم استعادة الشّخصيّة:
تتعرّض الأستاذة صباح لحادث مرور وهي تحاول انقاذه فيأخذها إلى المستشفى، يرفضون استقبالها، يستجدي ويتوسّل بدون جدوى، هُنا تنهض الاستجابة في داخله، ولكنّ لمرّة واحدة فلم يزل مصرّاً على "الضّعف المدثر بعباءة الأخلاق" ولكنّ اضطراره يدفعه لاستعارة بعضاً من مواصفات غوّار القديم: يهدّد موظّف المستشفى (قوّة) ويدّعي أنّ المصابة ابنة مسؤول (مكر) فيستجيبون له فوراً، ولكنّه يعود ويعترف أنّه يقصد نفسه بقوله "مسؤول" وبأنّه مسؤول عن عائلة، فيحتجزونها، ويطلبون منه مبلغاً كبيراً.
يفشل في الحصول على المال، يعرض على فطّوم أن يغنّي مقابل أجر؛ إنّ كلمات الأغنية "يا عنيّد يا يابا" تكشف النتيجة والخلاصة الّتي توصّل إليها الشّخصيّة (غير القوي ما يعيش يا يابا خُدها نصيحة/ يفنى الضّعيف ما يعيش يا يابا ويروح دبيحة).
ومع سماع مدفع العيد ينفض غوّار عنه أوهام الإصلاح، ويلبّي نداء الطبيعة، ويعود إلى غريزة القوّة، إلى غوّار القديم الّذي يعرف نفسه، ويعرفه الجمهور، متسقاً مع طبيعته البشريّة، والمدرك لجهل النّاس وشرّ نفوسهم، والقادر على التّلاعب بالمجتمع، يأخذ تعويضه عن سنوات العمل من فطّوم، ويدبّر مكيدة لأبي رياح، وأبي كاسم، وها هو يرى مظاهرة تخرج تحت شعار "يسقط الغلاء" فيتقدّم صفوفها، ويدخل هو للتفاوض – نيابةً عن المتظاهرين- مع رئيس المخفر، وعندما يسأله عن مطالب المظاهرة يقول له: بائع التبغ رفض أن يُديّنني علبة تبغ كلّ يوم، فيحلّون له المشكلة، ومجاناً.
تأصيل في القصّة:
يُمكن النّظر إلى الظروف Circumstances التي تواجه الشّخصيّة بوصفها ظروف مضادّة Theme antagonist، يعبّر عنها ويستجلبها عدد من الشّخصيّات المضادّة، ويعملان معاً في تناغم ملموس، أهالي الحارة – المجتمع - يعتمدون في معرفة وقت الإفطار على صوت المدفع، ويُنكرون تماماً الملاحظة بالعين المباشرة حتّى لو انتصف اللّيل، والمدفع ينتظر بدوره الأذان، الذي ينتظر الإذاعة، وهكذا؛ هناك حلقة مفرغة "عدميّة" بمعنى الطّور الأوّل الّذي يعني: تفضيل العالم الوهمي على العالم الواقعي، يعزّز ذلك الصراعات الناجمة بين أهالي الحارة – المجتمع – نتيجة سرديّات صراع عنترة وعمارة، وما تستحضره من مقاربات حول خلافات موروثة من أزمنة سحيقة، هكذا يتمّ انكار الحياة والوجود.
الطّور الثّاني، أو: العدميّة الارتكاسيّة، يستحضرها غوّار في نزعته الاصلاحيّة الجديدة، فهو الآن "انساني مفرط في انسانيّته" لديه قيم انسانية وعقلانيّة، يُشكّك في قيم المجتمع، ولكن لصالح قيم أخرى؛ يُريد احلال الأخلاق والقيم مكان الثّقافة السّائدة، وعندما يوغل خطوة أكثر في صحراء العدميّة، يقترب من الطّور الثّالث، وهو: العدميّة السّلبيّة.
إنّ بطل القصّة في هذا الطّور الثّالث يقوم بتبخيس الوجود، سواء كان مفارقاً أو محايثاً، الحارة – المجتمع – في منطومة قيمه، وأيضاً كما ينبغي أن تكون وفق رغبته في الاصلاح، ويبقى وحيداً الآن، لقد تحرّر من زيف العالم المحيط به، ولكنّه في نفس الوقت عاجز عن ابتكار قيم جديدة، ولذلك يحاول البطل أن ينتحر أكثر من مرّة.
في الطّور الرّابع يستجيب البطل لإرادة القوة، والّتي تبدأ بوادرها الجزئيّة بالنّهوض في داخله مع المواجهة في المستشفى، وتظهر في الأغنية، تُحسم أخيراً مع سماع مدفع العيد، بعد ذلك تتوضّح في مشهديّة مرئيّة: يدخل إلى مقهى صحّ النّوم -المسرح الرئيس للأحداث- ممتطياً حماراً، لقد جاء ليأخذ تعويضاته عن سنوات عمله لدى فطّوم، والتي رفضت منذ وقت قصير أن تناقشها، إنّه الآن يجلس مكانها، ويأمر لحماره ب"سطل من الشّاي الأخضر" ويوبّخ ياسين لأنّه أتى بالسّطل من غير صينيّة، يُحصّل أمواله بسهولة من فطّوم، بينما هي تأمر ياسين بأن يحلّي هذه الشّاي ب" سكّر تهريب" وليس مَحلّي الصّنع، يُخبرها غوّار بأنّ هذا الحمار مُصاب "بعقدة نفسيّة" لأنّه يشعر نفسه حماراً في الآونة الأخيرة، فتقول: ولكنّه يبدو أصيل" فيستأنف: ما بيحكي على حدا مسكين ألو تمّ ياكل ما ألو تمّ يحكي، تكمل فطّوم: "أي هيك الأخلاق".
التّقنيّة القصصية في علاقتها مع المضمون:
يعرّف فلاديمير بروب (1895-1970) الوظيفة في الحكاية أنّها "العمل الفاعل معرفاً من حيث معناه في الحكاية" والحدث يُعتبر وظيفة ما دام مقيّداً بسلسلة من الأحداث السّابقة الّتي تبرره، والأحداث اللاحقة عليه، وقد حصر في مبحثه مورفولوجيا القصّة عدد الوظائف الّتي تتكوّن منها الحكاية في 31 وظيفة، وتكاد تتواجد جميعها في هذا الجزء من صحّ النّوم، مع ظهور وظيفتين بشكل حاسم؛ الوظيفة السّابعة (وظيفة التواطؤ العفوي) أي: تُخدَع الضحية فتقوم بإعانة عدوّها رغماً عنها وبعفويّة واقتناع؛ التواطؤ العفوي ينجح ببراعة في دمج التقنية مع المقولة، فيكون التّواطؤ ضدّ الذّات هو الرغبة بالإصلاح، والاستقامة، والاقلاع عن القوّة و الذكاء، هكذا يحدث التّواطؤ والخدمة التي تقدّمها الشخصيّة للعدوّ، وأيضاً الوظيفة الرابعة عشر (وظيفة تسلُّم الأداة السّحريّة) وهنا تتحقّق في قرار البطل أن يعود إلى الذكاء الذي يُحسن استعماله بسهولة.
وضمن أنماط الشّخصيّات – وفق بروب نفسه - ودلالاتها، وصفاتها، فإنّ العمل يتضمّن أيضاً أنماط الشّخصيّة في الحكاية الشّعبيّة كلّها: -1- المُعتدي – 2- الواهب – 3- المُساعد -4- الأمير -5- البطل- 6- البطل الزّائف – 7- المرسل – 8- المرسل إليه، فنجدها متحقّقة كلّها: المُعتدي هو المجتمع ككلّ، الواهب هو حسني البورظان، المُساعد هو أبو عنتر، الأمير ممثّلاً بأبي كلبشة كصاحب سلطة، البطل هو غوّار بعد أن يُلبّي نداء القوّة، البطل المزيّف هو أيضاً غوّار ولكن طيلة فترة انشغاله بالهمّ الإصلاحي، المرسل عندما يُرسَل إليه القبقاب بعد التّخلُّص منه، والمرسل إليه هو نفسه)
اللافت للانتباه في هذه التّركيبة هو اشتمال شخصيّة غوّار، على نمطي البطل المزيّف، والبطل الحقيقي، فتكون نقطة التحوّل هي الانتقال من الأوّل إلى الثاني.
المُبهر أيضاً هو احتواء القصّة على الوظيفة السّادسة، ولكن متأخّرة، وهي وظيفة "الخداع" وهي عند بروب، في دراسته للخرافة الشعبيّة، تظهر في تنكُّر المعتدي بمظهر يخالف مظهره (ذئب – غول – ساحرة) في القصّة لدينا فرار الغوريللا من السيرك، وتنكّر أبي عنتر – بطلب من غوّار - بمظهرها، وهكذا تمتلك القصّة معاً: معظم مقوّمات الحكاية الشّعبيّة الخرافية، وفي نفس الوقت تبقى واقعية مبتعدة عن "الخرق" العجائبي، امتلاكها لمقوّمات الحكاية الشّعبيّة الخرافيّة يكون فقط على مستوى البناء: الوظائف وأنماط الشّخصيّة.
خاتمة:
تلك كانت محاولة عاجلة للإحاطة بالقليل – وعن جزء من عمل واحد – من عبقريّة الكاتب الكبير، ولفتة طفيفة للإشارة إلى روحه المبدعة الملهَمة الّتي قدّمت أعمق المضامين في أبسط الأشكال والشخصيّات.