2013/05/29
بشار عباس – تشرين
يعود الفضل لشخصيّة «نزيهة» الّتي قامت بإخفاء شوارب «محمود الفوّال» في صناعة حبكة العمل، فلولا فعلتها تلك؛ لبقي العمل مفتقراً إلى ما يجعل منه عملاً درامياً, وهو عنصر الحبكة والصّراع، فكلّ الصّراعات الجّانبيّة من لجوء «سيفو» إلى الحارة،
وخلاف «أبو ضاهر» مع «أبي قاسم» حول صوت «الحريم» الّذي ينفذ من النّافذة المشتركة، وصولاً إلى اغتصاب زوجة وابنة «أبو أحمد».. كلّ تلك الصّراعات كانت جانبيّة يُمكن أن يُصطلح على تسميتها بالحبكة المساندة، ولم تكن لتقود الشّخصيّات في الفعل الدّرامي، فرجال الحارة عاكفون على أسباب الرّجولة، لا يأتيهم الشّر والباطل الضّروري كقاعدة من قواعد القصّة الكلاسيكيّة، فكان أن عُزي ذلك إلى النّساء.
لم تفعل «نزيهة» ذلك بقصد الشّرّ، و لم تكن على علم بخطورة ما سوف ينتج عن ذلك الخطأ التّراجيدي، فعلت ذلك في سجال يومي أزلي مع ضرّتها؛ فإذا بالحارة تنقلب رأساً على عقب. ليس «كأمّ المخرز» في مسلسل «ليالي الصّالحيّة» فتلك قامت بدور المحرّض على استرجاع الأمانة، وهي واعية بخطورة دفع ابنها بكلّ ما أوتيت من حيلة وكيد، ولم تكتف بالتّحريض؛ بل اشتركت في الفعل الدّرامي نفسه حين قصدت بيت «المعلّم عمر» فسرقت «العلامة» مع أنّ ابنها كان لا يخلو البتّة من جميع مواصفات الشّخصيّة الإيجابيّة أحاديّة الظّهور من رجولة وشهامة وتأنيب ضمير. فاحتوت لوحدها كلّ مواصفات الشّخصيّة المضادّة الّتي تقود الحدث، مع حبكة مساندة هي عقم «سعديّة- زوجة المعلم عمر» فكان الحصول على ولد هو ما يوصف في عالم الحكاية بالهدف الرّئيس للشّخصيّة الرّئيسة، وكان عقمها هو ما يوصف بالعقبة الرّئيسة، ومع هذا لم ينشد زيجة أُخرى بفضل كلمة كان قد أعطاها لوالد «سعديّة» معلّمه السّابق، فحُفظ بذلك مصير الزّوجة الّتي يحلو لها من حين لآخر القيام بمشاكسات جانبيّة صبيانيّة، ونجت بفعل ميثاق شفهي أبرمه والدها مع زوجها..
ثمّ طرأ بعض التّغيير على ذلك في مسلسل «باب الحارة»، فكان الصّراع في ذلك العمل يسير في محورين قلّما تقاطعا، الأوّل هو العلاقات الشّخصيّة بين أفراد الحارة، والثّاني هو الصّراع مع المحتلّ الفرنسي الحاضر من خلال شخصيّة «سطيف» الّذي تسنّى ل»أبي عصام» الكشف عن حقيقته بحبكة مساندة وقعت حين تجرّأت زوجته «سعاد» على الدّفاع عن اتّهام استهدفها به؛ بأن وصفها «بقليلة التّربية» وكان الطّلاق جزاءها على الردّ في وجهه..!
ذلك ما دفعه للمبيت في محلّه ومراقبة النّاس على طريقة رواية «الجّحيم» لهنري باربوس، مع تعديل طفيف فبطل «الجّحيم» فعل ذلك من ثقب الجدار في حجرته بالفندق، بينما قام «أبو عصام» بمراقبة الحارة من شقوق باب دكّانه، فعلم عندها الكثير من الحقائق ، إلى أن جاء أبو غالب وفضحه. غير أنّ «أبا غالب» مُنح أخيراً صكّ البراءة وعاد شخصيّة طيّبة كانت قد فعلت الشّرّ كردّ فعل على سوء تفاهم قديم، ليس كشخصيّة «فريال» وما سببّته من إغناء للصّراع الدّرامي بدورها في وقوع الطّلاق، ثمّ بالمكيدة الّتي أودت بـ«عصام» إلى السّجن؛ حيث يُعزى تراجع دور المرأة قليلاً عن تصدّر الفعل المضادّ المسبّب للأحداث في هذا العمل إلى توزّع القصّة على محورين اثنين، فالصّراع مع المُستعمر هُنا كان حاضراً بشكل يُمكن أن يوصف بالظّروف المضادّة، ما أدّى إلى تراجع دور المرأة قليلاً في قيادة الفعل المضادّ. ليس كما في «أيّام شاميّة» عندما اقتصر وجود المُحتلّ على سرقة «سيفو» لبعض البنادق، وبعده فعل الاغتصاب الّذي ارتكبه الجنديّان العثمانيّان، فبعد القصاص من الجنّديين عادت الأمور إلى طبيعتها. وأمّا حضوره في «باب الحارة» بهذه الطّريقة؛ فجعلهُ أقرب إلى حكايتين أُجبرتا على أن تكونا حكاية واحدة، فتقاطعتا في لحظات قليلة.
يبقى عملٌ آخر يختلف قليلاً عن الأعمال الثّلاثة السّابقة في توزيع الأدوار، لكنّ مع عودة للمرأة في قيادة زمام الصّراع من خلال استحداث الفعل الشّرّير المضادّ، ألا وهو «أهل الرّاية» فالزّوجة «دلال» قامت بتبديد شمل عائلة زوجها، وكان أخطر ما قامت به هو التآمر على «قطر النّدى» الّتي لم تعد عذراء في نظر أهل الحارة، فقادتها الظّروف إلى منزل «رضا» المُطارد بعد ارتكابه سلسلة جرائم دفاعاً عن شرف والدته، فاستحقّ بذلك لقب «الحرّ» ..
لقد اشتركت الأعمال الثّلاثة الأولى قي كثير من العناصر، وكان ل»أيّام شاميّة» دوراً كبيراً في استهلال ظاهرة أعمال البيئة الشّاميّة، فصار مصدراً مُلهماً لكثير من الكتّاب، وتولّعوا أن يستمدّوا منه الواقع ذاته فتكرّرت فيه الشّخصيّات ذاتها من زعيم وحلاق ومختار و«عكيد» وظهر الاختلاف قليلاً في أدوار (أهل الرّاية) لكنّه يُمكن أن يُضاف إلى تلك العيّنة وفقاً للدّور الّذي تفرّدت به المرأة في الفعل المضادّ عبر شخصيّة دلال، وثانياً من كونها موضوعاً يستجلب الفعل المضادّ من خلال والدة «رضا الحرّ» وثالثاً في كونها عنصراً أساسياً في الوصول إلى النّهاية وعودة الحياة إلى طبيعتها؛ وذلك بعد توقّف الصّراع الدّرامي وظهور براءة «قطر النّدى»، تُوّج ذلك بصرختها: لن أعود إلى بيت أبي قبل أن تكشف على عذريّتي جميع قابلات الشّام..
بالطّبع، تبقى أعمال أُخرى كثيرة لا سبيل إلى ذكرها في هذه العُجالة، ساهمت جميعها في انحسار عيّنة أخرى من الأعمال الشّاميّة الأصيلة كان قد استند كتّابها إلى واقع حقيقي، وليس واقعاً وهمياً تلفزيونياً أسسّه مسلسل «أيّام شاميّة» وفي مقدّمة تلك الأعمال المفارقة مسلسل «بسمة حزن» المأخوذ عن رواية لألفة الإدلبي، فالشخصّيّة الرئيسة الّتي تنطبق عليها مواصفات البطل التّراجيدي كانت «صبريّة» الّتي جمعتها بشابّ متعلّم قصّة حبّ، وكان يأتي لها بكتب وأعمال أدبيّة كرمز للحراك الثّقافي بدمشق وقتئذٍ، وكان واحداً من تراجيديّاتها مقتل ذلك الحبيب على يد الأخ عادل الّذي حمل مواصفات الشّخصيّة المضادّة المسبّبة للشرّ والقائدة للصّراع الدّرامي، وانتهت تلك الفتاة بالانتحار، فانطبقت عليها كامل شروط البطل التّراجيدي من النّاحية الأدبيّة..
تلك هي حال الدّراما البيئية لمّا كانت محلّيّة لا تخضع لشروط الفضائيّات والتّسويق والإعلان، كانت تستند إلى الواقع كما هو فجاءت محمّلة بمقوّمات المزاج الاجتماعي والثّقافي السّوري. يبقى جديراً بالذّكر أن اسم الرّواية لم يكن كما ظهر في المسلسل، فقد كان: «دمشق يا بسمة حزن» ...