2013/05/29
سامر اسماعيل – تشرين
يحرق طيوراً استوائيةً خضراء مع كل أكشن، يقتل أحصنةً في ذروة المشهد، شاعر الصورة يتلوى عند أقدام جماله البصري الخالص،
يطوف في أرجاء كوادره المائية الرحبة، يصوّر تحت الماء كغطاسٍ بعدسةٍ رعدية خاصة، ينتقم من المسرح المصور أيما انتقام، يشرف على جوقته البصرية هذه، يسوس فيلةً وجيوشاً ونموراً ونساءً، يتربص بأكمة الكاميرا، وبدلاً من وضع بطاريةٍ لها، يقذفها في هواء اللقطة، «يشلفها» على طول ذراعه في لُجة الموج، ليستعيد منها أرواح أحصنةٍ مبقورة، هكذا بدا لي نجدة إسماعيل أنزور ناهضاً من كبواتٍ متعددة، مرةً في الأفلام الإعلانية، ومرةً في أفلام يشارك فيها في مهرجانات السينما العالمية تحت أسماء بلدانٍ مختلفة، فمن يصدق أن اسمه على هذا الفيلم السوداني المتواضع في مهرجان الأفلام الإسلامية؟ ربما يشي ذلك بأن نجدة أنزور مخرج تحت الطلب، لكن الدفاع عنه لا يمكن أن يكون بهذه الطريقة، لكون هذا الرجل المديد القامة يحب أن يبدو متهماً دائماً وهو ثمل بصوره، رجل يملك كل هذا الدهاء في مواقع التصوير يستطيع وبقلبٍ بارد أن يذبح طيراً أخضر أمام الكاميرا، أو أن يقول لمجاميع الكومبارس: هيا انطلقوا (تماماً كما فعل كاليجولا في مسرحية ألبير كامو مع حاشيته التي تخطط للانقلاب عليه) ذلك أن الطاغية الروماني كان قد حضّر حراساً عند كل بوابةٍ من بوابات قصره، وضع عليها خيرةً من رجاله الأشداء، قائلاً: أمام كل بوابة هناك قتلةٌ بانتظاركم..
في التصوير يصعد هذا «القادم من الشرق» بجرأةٍ نادرة، إنه على الأغلب كثيرٌ علينا، نحن الذين نعدُّ له أخطاءه الطفولية، نسجل عليه شطحاته الاكتشافية على أنها مجازر مدبّرة، ونقذف بسمعته، وهو رجلٌ يفهم الوطن كمجموعة من الصور المتحركة، ليس كرتونياً..على الإطلاق، بل هو ابن ذلك الرجل الذي حقق «تحت سماء دمشق» فيلماً ستمنعه سلطات المستعمر الفرنسي بحجة حقوق التأليف الموسيقي، لكن الفرنسيين أرادوا, وعن عمد, إحباط أية محاولة لسينما سورية، فهم على عكس ما يروج لهم البعض بأنهم رعاة ثقافة وفن وحقوق تأليف وإنسان، فقد أرادوا ومنذ ثلاثينيات القرن الفائت القضاء على أية ثقافة للصورة الوطنية، فالاستعمار لا يقع فقط على الأفراد بل على أخيلتهم، وبما أن الولد سر أبيه، فقد أودع «إسماعيل» الأب ولده غرامه السينمائي الصامت، هكذا على الأقل جاء نجدة بحرقةٍ مستعرةٍ في القلب، بعينين مصابتين برمد الصورة، بهيمنة العالم البصري و جنزرته بمجالات العدسة.
من هنا لم يفاجأ من يعرف كل هذا الفقد الذي ورثه الابن عن أبيه وعن أفلامه الصامتة، بأنه فقدٌ جارح فيه من اللوعة ما يكفي للانقضاض على الطبيعة وأشيائها لتوقيع الاسم بشفرة الصورة، فكان «نهاية رجل شجاع» عن رواية حنا مينه وسيناريو الأديب حسن م. يوسف فاتحة الهطول، روائية تنقلت بين البحر والغابة المتوسطية وفق شاعرية خاصة، فلا هي سينمائية بالمعنى الكامل، ولا هي تلفزيونية محضة، إنها لغة بصرية وعت شروطها المعاصرة، فالتفريق هنا بين لغة للسينما وأخرى للتلفزيون ليس دقيقاً، والدليل أن معظم المسلسلات والتمثيليات التي صورها التلفزيون في بداياته كان بكاميرا سينمائية، فاللغة السينمائية المنسوبة لنوعية الكاميرا، أو المنسوبة لدقة اللقطة ليست ضمن هذا التصنيف الشعبي، خلاصة الكلام أن أنزور يعرف تمام المعرفة أن اللغة البصرية الجديدة ليست سينمائية كونها تمتد على ثلاثين ساعة مشاهدة، وهناك حشو وثرثرة بصرية، لكنني أعتقد بأن الصفة السينمائية التي لازمت أعمال أنزور نابعة أولاً وأخيراً من زاوية الرؤية الخاصة التي يملكها، أضف إلى ذلك شعوره بجماليات المكان وضرورة توفيرها داخل الكادر التلفزيوني، فالتشكيل باعتبار الكاميرا فرشاة العصر التلفزيوني القادم إلى الشرق يتطلب دراية حسية وانفعالية مع المكان، كون هذا الأخير بطلاً لا يجارى في حضوره الوجداني والزماني لدى المتلقي الجديد.
ربما مر «أنزور» بمراهقة بصرية اعترف بها ذات مرة في لقاء تلفزيوني على الفضائية السورية، لكن الرجل اليوم وصل إلى نضج كافٍ في تأليف الصور، طبعاً يحتاج هذا التأليف البصري إلى نص جيد يدعمه ويؤازره، فالمخرج الذي كان ينمى عنه بأنه لا يقرأ النصوص التي يشتغلها، ولا يهمه شغل الممثل بقدر ما يعنيه إخراج رأسه من كل كادر يصوره، يعد اليوم من أهم الأسماء الإشكالية في ساعات البث العربية الفقيرة أصلاً بلغوية «أنزور البصرية، وجرأته العالية في التصدي لحساسيات اجتماعية خطرة وديناميتية، إذ عليه أن يبتعد كل الابتعاد عن نصوص تظهر على أنها جريئة في طرحها الاجتماعي، لكنها تعاني الكثير من الثغرات التي صارت الآن تؤثر على أدائه كمخرج، ومن نافل القول أن نقارن بين عمليه «ما ملكت أيمانكم» و«ذاكرة الجسد» فأنزور الإشكالي الذي يعاني في «ما ملكت أيمانكم» من استعادة كوادر ومن وضع قفص على كاميرته الذهنية العالية، تمتع بفيض ودفق عالي المستوى مع سيناريو «ريم حنا» المأخوذ عن رواية الجزائرية أحلام مستغانمي، هكذا يبدو واضحاً أن صاحب «سلطان الرمال» بحاجة إلى نص جيد، نص لا يختبئ خلف جرأته الاجتماعية التي لا تقدم بالضرورة عملاً فنياً جيداً، ولا تقترح سردية بصرية مع المكان كما فعل في «ذاكرة الجسد»، فلاشك في أنه في هذا الأخير كان استثنائياً في كتابة بطولة للمكان، وهو يعبر بنا من حرب الثوار الجزائريين في جبال قسطنطينة نحو شوارع باريس الثمانينيات، مروراً بالعدوان الإسرائيلي على بيروت و فدائيي الكفاح الفلسطيني المسلح، إنه في «ذاكرة الجسد» متألق في إدارة الكاميرا بين بحر الجزائر وضفاف نهر «السين» وبحر بيروت، الصورة؛ هنا مزيج متجانس من مصائر شعوب تخرج لتوّها من سنوات الاستعمار لتتمتع إلى حين بجنة الاستقلال الوطني، هنا أيضاً يرصد المخرج السوري علاقة الإنسان بمكانه، حيث يبتعد عن كليشيهات المعالجة التلفزيونية الفجة نحو زمانية اللقطة، قدرتها على شحن كل شيء بالعاطفة والحب، حدث ذلك طبعاً مع موهبة ثانية يتمتع بها هذا الرجل وهي قدرته على إفراغ وملء المشهد بإضاءة خاصة، إضاءة تكتسب معانيها من الوجوه التي يولفها من أجل رسوماته الأثيرة، الرسم هنا يأخذ معنى مختلفاً في تنظيف الكادر من الغبار الإضافي وتعبئته بهواء ذي دلالة، والخلاص نحو تقنية متعددة المآخذ، قدرة ممتازة على توزيع الأدوار، والمغامرة بوجوه مجهولة، ولعل هذا آتٍ لديه من ثقة عمياء برؤيته للممثل، ثقته في صناعته التلفزيونية التي يعي شروطها الذاتية والموضوعية في آنٍ معاً، فلا مبالغات اليوم في أعمال أنزور الجديدة إلا من ضرورة التسويق وعلاقته الحساسة مع المحطات النفطية المنتجة للدراما، فصاحب «العوسج» يعرف بشكل موضوعي حدود الخيارات التي يتمتع بها الإنتاج العربي، رغم أنه يغامر في اختراق تابوهاتها المتكاثرة بفعل الرقابات العشائرية الضيقة الرؤية، لكنه يعرف كيف ومتى وأين يقوم بذلك، فمن الخطأ أن نفصل «نجدة المخرج» عن «نجدة الديبلوماسي» فالذي يعرف هذا الرجل عن قرب سيدرك الذكاء الخاص الذي يتمتع به، وسيعرف أنه على غير ما يبدو من الدماثة، لأنه يمشي بهدوء نحو غاياته، وهذا مشروع ضمن خيارات الخلاص الفردي الذي يدرك «أنزور» أهميته في إيصال واكتساب مهارات جديدة، حتى وإن كان ذلك في سبيل موضوعات ما لا يتبناها بشكلها الحالي، إلا أنه يعقد العزم على عملها للتدرب والتمرن وإعادة اللياقة لأدواته، أجل هذا واضح من التذبذب في نوعية الأعمال التي قدمها، والتي يتعامل مع سيئها كأقدار مكتوبة ليس إلا، فيما هو يريد أن يحقق لعبته القديمة مع الصور، لايهم مع من ضد من، ولا يهم إن مثل السودان أو الفلبين مثلاً بفيلم متواضع، ما يهمه هو التدرب المستمر على قتل الأحصنة البصرية ومنعها من الموت في إصطبلاتها النائية وأمام سطول برسيمها الاجتماعي الفاسد، فهو المخرج الذي أعلن على الملأ تاريخ دولة آل سعود في فيلم «سلطان الرمال» هذا الفيلم الذي تلقى بسببه مؤخراً تهديدات بالقتل، لم يمنعه من الاستعداد لتصوير مسلسله الجديد لمصلحة المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني، وفيه يصر صاحب «رجال الحسم» على ملامسة الأزمة السورية عبر ثلاثيات درامية يطل عبرها على هذا الأرخبيل السوري المدهش...