2013/05/29
سامر محمد إسماعيل – تشرين
يقترب الفنان الراحل ناجي جبر من أنموذجه الفني «أبو عنتر» لا كمطابقة بين الفنان والشخصية التي أداها في الكثير من الأعمال الدرامية،
بل من فكرة الأيقونة التي استطاع هذا الفنان أن يبدعها، من دفاعه عن الشخصية النمطية كأسلوب فني راقٍ، ومن هذا الأثر العميق الذي تركه عند مشاهديه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، إذ استطاعت شخصية «أبو عنتر» أن تحفر في ذاكرة الكثيرين عبر تحول هذا الموديل النفسي الجسدي كمحاكاة للبطل الشعبي المحبب، فهو بطل ليس بالمقاييس الجديدة في مسلسلات الحارة الدمشقية، بل تكمن بطولته في هذه السخرية الدفينة التي أضمرها كاركتر «أبو العناتر» من صورة البطل نفسه، ثم عن أي بطل نتحدث هنا؟ البطل في صيغته الدرامية المعاصرة لا يشبه لا من قريب ولا من بعيد ما قدمه «جبر» بل هو على طرفي نقيض مما تحاول اليوم دراما البيئة الشامية تكريسه عملاً إثر آخر، فهذا الفنان كان يعرف أن وصفته التي قدمها في «صح النوم» و«ملح وسكر» و«مقالب غوار» ليست وصفة سطحية لسوبرمان تقليدي، بل هي محاكاة ساخرة من آخر فتوّات الحارات القديمة، هي خروج فني إبداعي عن عناصر الواقع، إلى كيمياء شخصية بالغة التركيب، فعلى رغم البساطة التي تظهرها شخصية «أبو عنتر» في تصرفاتها وسلوكها أمام الكاميرا، لكن إذا أعدنا التأمل في ردود أفعال هذه الشخصية النمطية سنتعرف أكثر على مقاييس عالية الجودة في صناعة الأيقونة، وسنعرف أيضاً لماذا جعلت شخصية «أبو عنتر» من صاحبها فناناً لا ينسى في ذاكرة المشاهد المحلي والعربي على حدٍ سواء.
إن إنجاز الفنان ناجي جبر يكمن في قدرته الفنية على تغيير صور جاهزة في مخيلة المشاهد، حيث ترافقت أعمال كل من الفنانين دريد لحام ونهاد قلعي مع نهضة اجتماعية في سورية، كان عليها أولاً الإجهاز على بقايا المظاهر الفردية الخاطئة المترسبة من مخلفات الحارات المغلقة، فها هي المدينة تنتعش بجامعاتها ومحالها التجارية ومسارحها وقاعاتها السينمائية، وهاهو التلفزيون يأخذ دوراً جدياً وحاسماً في صناعة الرأي العام وتوعية وتنوير المشاهدين الجدد، وفي كل هذا يجب على الدراما الجديدة أن تجد لها موطئ قدم في الفهم الاجتماعي الجديد، هذا الفهم المبني أساساً على التخلص من مفاهيم رسختها سنوات طويلة من الحميّة الفارغة، ولهذا وجد ناجي جبر تلك الصيغة التي قدمها بدقة بالغة مع فنانين كبار، ليتمكن من بلوغ مآربه الإبداعية وبحساسية نفذت إلى قلوب جمهوره من دون استئذان، لقد كان جبر يعرف أنه يقدم ما توقعه الجمهور الجديد منه بعد بدايات كانت تتلمس الطريق في التلفزيون السوري منذ انطلاقته عام 1960 وبجهود جبارة، لكن الوقت كان مبكراً على بزوغ إشراقات فنية قادرة على معرفة الحاجات الجديدة لمشاهد لم تتبلور لديه بعد قيم المشاهدة التلفزيونية الجديدة، ليأتي الفنان «جبر» ورفاقه مع مطلع سبعينيات القرن الفائت بأنموذجه الأغلى على قلوب الكثيرين من عشاق فنه الرفيع، وكان هذه المرة «أبو عنتر» بثيابه الرثة وعضلاته المفتولة وشاربيه المبرومين وبجملة منقوشة على زنده مفادها «باطل مع جمجمة وعظمتين».
هكذا بدأ الفنان السوري توصيف سيمياء الشخصية مقترباً من حساسية اجتماعية غاية في الصميمية من مشاهد تلك الأيام، لكن بحذر وبمقادير دقيقة اختبر الفنان أنموذجه، قاربه، وهيمن على أدواته، لكنه في الوقت نفسه صنع ما يريده، فلم يكن القبضاي هنا سوى صورة ساخرة من قبضاي أصلي في ذهن الجمهور، قبضاي لم يجد أحداً يصدقه بعد هدم الجدران التي كانت تظلله، قبضاي قادر على نمذجة موديل آخر من البطولة غير الاعتيادية، لم يلجأ جبر إلى مسخ صورة القبضاي بل جعله في مبالغاته الشكلية والنفسية، رجلاً تملأ نفسه النخوة والشهامة، ولا ينقصه الذكاء، لكنه كان مرحاً صانعاً للضحك، يهدد بـ«شبريته» وهو يعلم أنه لن يستعملها، يقف إلى جانب رفيقه «غوار» ويتورط في أحابيله ضد «حسني البورظان» من دون أن يعني ذلك شراً، بل كان تماهياً عضوياً مع رغبة الفنان في تهشيم صورة نمطية أخرى أكثر استشراء عند المشاهد العربي عن طريق اللعب، فبالكوميديا نستطيع تخطي كل شيء، الكوميديا هنا تكتسب خطورتها البالغة من نزع وتحطيم المفاهيم البالية عن النفس الإنسانية والمجتمع في آنٍ معاً وفي فضح التزوير للقيم منتهية الصلاحية.
لا يمكن لأحد ألا يصدق ناجي جبر وهو يتمادى في تصديق نفسه، لا يمكن أن نصدق أن أبا عنتر هو ليس ناجي جبر، وهذا مرده إلى صدق هذا الفنان وتفانيه في إبرام كل شيء من أجل نجاحه، حيث بدا ومنذ أوائل ظهوره على الشاشة الفضية أنه يمتلك أدوات إقناعية مذهلة، كما امتلك سليقة فريدة في محاكاته الساخرة تلك، فأبو عنتر ليس شريراً، ليس «أحدعشرياً» ولا «نمساً» أو «عكيداً» إنه هو ذاته من أغار مع رفيقه غوار على ثلاجة «أم ياسين- سامية الجزائري» ليلتهم بيضاً نيئاً وبطيخاً، إنه نفسه المقتنع بضرورة الفن والموسيقا والسينما في «وين الغلط» و«عودة غوار» محتفلاً بعيد الصداقة العالمي..