2013/05/29
محمد رضا – دار الخليج
في كل عام، منذ 35 سنة، يمر مهرجان “سينما الواقع” تحت رادار معظم النقاد العرب وغير العرب . يمر وتمر الأبصار بعيداً عنه كما لو أنه ليس موجوداً . إنه مهرجان باريسي للسينما التسجيلية تم تأسيسه سنة ،1978 واعتاد عرض ما يتراوح ما بين 140 و170 فيلماً كل عام . ومنذ بضع سنوات استقر في مركز بومبيدو الثقافي في باريس .
هذه الدورة، التي استمرت عشرة أيام وانتهت في الحادي والثلاثين من الشهر الفائت (مارس/آذار)، شهدت قرابة 146 فيلماً في مختلف فئاته وتظاهراته، ومنها المسابقة الدولية، ومسابقة الفيلم الأول، ومسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة الأفلام الفرنسية . قسم خاص عن السينما التشيلية كان نجم هذه التظاهرات هذه السنة، وعودة لتظاهرة “دول في الخيال ودول في الواقع”، وهي تظاهرة قدّمت ثلاثة عشر فيلماً تدور حول البحث عن هوية المدن والبلدان التي تقع فيها الأحداث .
كون المهرجان تسجيلياً وجادّاً في رصف أعماله على هذا النحو، يعني أن يفتح المرء عينيه على أعمال توثّق للآلام التي تمر بها المجتمعات وللمشاكل التي تخز خاصرة العالم .
في الفيلم البنغلاديشي “هل تصغي؟” نواجه قرية صغيرة تقع بين الغابات وعلى ضفاف مستنقعات وأنهر . هناك نحو مئة عائلة منكوبة بفعل طوفان جارف وقع سنة 2009 . يتابع الفيلم الأم رول التي تعاني - غالباً بصمت - شظف الحياة والعناء بالعائلة . زوجها لا يعمل وابنها الصغير في الرابعة من العمر بلا مدرسة . إنها محبطة والفيلم يوفّر الأسباب ويلتزم الصمت . مخرجه كامار أحمد سيمون يقدّم مادّته برصد رائع . لا يبدو على الفيلم أي قدر من التجريب، ولا هو مصنوع للفت الأنظار إليه، بل إلى العائلة . صوره جميلة وتواليها جيّد بحيث استحق الجائزة الأولى التي نالها في نهاية أعمال المهرجان .
من وضع بائس في بنغلادش إلى وضع خطير في سردينيا الإيطالية . في فيلم ماسيمو دانولفي ومارتينا بارنتي “قضية داكنة”، نتابع قضيّة لم تثر سابقاً أي اهتمام ولا تحوّلت إلى عنوان تلفزيوني أو إلى قضية سياسية . منذ العام 1956 وجزء كبير من الجزيرة الإيطالية تحوّل إلى مجال تجربة أسلحة الدول الأوروبية . كلّما تم إدخال سلاح جديد تشهد الجزيرة احتمال تجربة السلاح فوق أرضها أو في أجوائها . المنطقة ذاتها ليست مأهولة جدّاً، لكن من عليها لهم الحق في الحياة . إنهم مزارعون وفلاحون ورعاة ماشية أضرّت التجارب بحقولهم ولوّثت تربتهم، بحيث انتشرت الأمراض بين المواشي والبشر على حد سواء .
لا يعلّق الفيلمان المذكوران على ما نراه . ليس هناك داعٍ لذلك، بينما يسجل “هل تصغي؟” حوارات شخصياته، يمضي معظم فيلم “قضية داكنة” صامتاً، لا تعليق صوتياً ولا حوارات بين الأشخاص . رغم ذلك كل شيء ينطق بأسى وضع لا يلتفت إليه أحد .
في نهاية الفيلم يدفن أحد المزارعين عجلاً مات مسموماً، فتطلق بقرة وقفت بقرب القبر خواراً حاداً طويلاً غير متقطع وداعاً للعجل . واللقطة التالية للكاميرا وهي تمضي بعيداً تودّع بدورها حياة قدّمتها ولا تستطيع أن تفعل شيئاً آخر لمساعدتها .
هموم معيشية
هناك تجربة مختلفة من الصين تحت عنوان “صورة شخصية: عند الكيلومتر 47”، مخرجة اسمها منجي زانغ تعود إلى قريتها الصغيرة لكي تصنع فيلماً عن المعمّرين الذين عايشوا فترة المجاعة التي ألمّت بالصين ما بين عامي 1958 و1960 . ماذا يتذكّرون عنها؟ كيف عايشوها؟ وكيف تجاوزوها؟ لكنها تكتشف أن أهل القرية يريدون الحديث عن عائلتها هي التي عانت كما عانوا هم . المخرجة لا تتحاشى ذلك، تفتح المجال أمام الآخرين للحديث عن عائلتها من باب رغبتها في تسجيل حياتها . وهذه هي المرّة الثانية التي تعمد فيها إلى هذا التصوير الذاتي بعد فيلمها السابق “صورة شخصية وثلاث نساء” .
وجدت “عين القرش” أقل أهميّة من الأفلام المذكورة آنفاً . فيلم للإسباني أليو هويمان ويتحدّث عن صبيين يعيشان في بلدة على ساحل نيكاراغوا . يتابعهما الفيلم في حياتهما اللاهية وسط معالم الحياة الحاضرة حيث تتوزّع الهموم بين أسباب معيشية محددة (يعتمد معظمها على صيد القرش)، وحضور لعصابة مخدّرات يتناوب وحضور الدوريات العسكرية . بعد حين، على هذين الصديقين أن يودّعا اللعب ويفترقان، لقد كبرا وبات على أحدهما مغادرة المكان والآخر البقاء في وضع محفوف بالمخاطر . الفيلم ينتمي إلى السينما التسجيلية كمظلّة عريضة، لكنه في كثير من نواحيه ما هو إلا تسجيل لمفارقات وحيثيات عمل متّفق عليها .
في المنحى التجريبي لدينا “لمسة” للأمريكية شيلي سيلفر التي تتابع في تقاطع ما بين إعادة التركيب روائياً وبين التسجيل والتجريب، حياة رجل عاد إلى الحي الذي عاش فيه لمعايدة والدته قبل أن تموت . الفيلم يصوّر حالة رجل هو بدوره شغوف بالنظر إلى الأمور ومراقبتها وتصويرها ليصبح بذلك فيلماً داخل فيلم .
بالعودة إلى رصد القضايا، نجد في المسابقة الرئيسية فيلم للبرازيلية ماريا راموس بعنوان “هضبة من الملذّات” الذي ينظر إلى الوضع في قلب مدينة ريو دي جنيرو، حيث يتنازع البوليس السيطرة على المكان مع مافيا المخدّرات، وحيث يدفع الأبرياء ثمن هذا الوضع غير المستقر .
وإذا كان “قضيّة داكنة” يتحدّث عن قضية بيئية غير ملحوظة، فإن “الإشعاع” لمجموعة مخرجين سمّوا أنفسهم ب “فريق أوتوليث”، يتناول الكارثة النووية التي وقعت في اليابان قبل عامين، وهو لا يخلو من سمة التجريب باحثاً عن أسلوب يعبّر عن قدرة مخرجيه المتعددين تحقيق فيلم واحد يمثّلهم ويعكس واقع اليابان بعد الكارثة بعين فاحصة تكاد تكون واحدة .