2013/05/29
علي الأحمد – الثورة
لا نعرف في تاريخ الشعوب أمة يتناسخ فيها المغنون وصناع الفتنة الحسية كما تفعل أمتنا العربية ،فعلى مدى تاريخها الممتد كانت صناعة هذا الفن تأخذ حيزا مهما في تفاصيل الحياة العربية ،
صحيح أن هذا الفن كانت له معايير ابداعية تحكم وتتحكم في صناعته وانتاجه لكن هذه المعايير انفلتت في العصر الحديث ولم يعد يُجد الحديث عنها في عصر التقليد واستنساخ الآخر .
وقد يرى البعض أن هذه النكبة الموسيقية المعاصرة هي نتاج لمقولات العصر الحديث التي تنادي بالتحرر من كافة التقاليد القديمة بما لها وعليها ، وانعكاس ذلك على تدن وهبوط هذا الفن في متغيرات نسفت كافة القيم الذوقية والجمالية ،إلا أن هذا التحول كان قد بدأ قديما ومنذ انهيار الامبراطورية العباسية وما تلاها من جمود فكري طال كافة معالم الموسيقا والغناء واستمر كذلك مع الحقبة العثمانية التي أفرزت طقوسا غنائية يحتل فيها الطرب والتطريب بكل حسيته وفتنته مكانا عريضا وممتدا مما أثر على تثوير هذا الفن خاصة في المجال التعبيري الذي كان مغيبا تماما ولم يظهر بشكل مثمر وايجابي الا مع سيد درويش وثورته الموسيقية العظيمة بما حملت من بشائر تعبيرية وتصويرية نقلت الفن الموسيقي العربي الى مكانات ابداعية والى حداثة موسيقية عقلانية كان بأمس الحاجة لها ،ومع ذلك بقي فن الغناء يدور في فلك التطريب لكنه تطريب مقنن ومؤطر ضمن رسالته التي انبنى عليها اخلاقيا وتربويا خاصة في التعبير عن قضايا الوطن والانسان العربي بكل آماله وتطلعاته ،وبقي الحال كذلك الى أن حدثت النكسة وهوامشها التي كان لها انعكاس قوي على الروح الموسيقية العربية الأصيلة التي تراجعت وانكفأت ليخلو المشهد لأصحاب الروح التجارية ، وتصبح الموسيقا العربية بين ليلة وضحاها غريبة الوجه واللسان بما استدعى التحرر من كل الإرث الابداعي ومنتوجه القديم ليحل منتوج الغناء المعولم مكانه حيث أصبح الغناء العربي انعكاسا ومرآة للمجتمعات العربية التي اضحت خارج التاريخ ،تكتب تاريخها المعاصر بحبر الماضي الذي جف تماما ولا تقدر على الانتقال الى المستقبل ولو بخطوة واحدة وكأن العقل العربي الموسيقي بات عاجزا عن اجتراح الحلول حيث يتناسخ المغنون ويتكاثرون كوباء الطاعون وتقام لهم مهرجانات واحتفالات اشبه ما تكون الى السيرك وألعاب الخفة في سبيل ترسيخ القيم التجارية وإبعاد الروح الكلاسيكية وتسفيه قيمها الانسانية العالية وهذا ما عبر عنه منذ حوالي الألف عام المؤرخ «الأصفهاني «حين قال عمن امتهن » هذه الصناعة : وكان مستهزءا بالغناء حتى تعاطى أن يغني .