2012/07/07
باسمة اسماعيل – تشرين
لطالما كان الجسد البشري حمالاً لأكثر من لغة، وهذه اللغة التي كانت تتفجر إبداعاً مرة في لوحة تشكيلية وتارة في عرض مسرحي وحيناً ابتهالاً ورقصاً.. ذلك ما تجلى مؤخراً في العرض التعبيري الراقص على مسرح سعد الله ونوس في المعهد العالي للفنون المسرحية،
ولمدة ثلاثة أيام متتالية في مشروع تخرج طلاب السنة الرابعة قسم الرقص، بمشاركة خمسة خريجين هم: ريما الحسن، سعيد جربوع، فاتنة صالح، محمد وفا بوطي، مريم الحسن، حيث قدم كل منهم لوحة مستوحاة من الواقع، واعتنوا في تصميمها وموسيقاها، وقد امتازت أيضاً بالإيحاءات المعبرة عن مضامينها، وانسيابية حركاتهم كانت دالة على المستوى الذي وصلوا إليه من خلال خبرة الأربع سنوات من التدريب، ومشاركاتهم في سلسة العروض التي قدموها مع أستاذهم معتز ملاطيه لي.
زيف المظاهر
فقد قدمت ريما الحسن لوحة كان محورها المظاهر، وكيف يقوم الناس بخداع بعضهم من خلال إظهار أشياء عكس مضمونهم، فقد اختارت الرقصات المناسبة لسهرة الخطبة والموسيقا الهادئة على إيقاع البيانو والأزياء المناسبة لهذه السهرة، أي رقصة الصالونات وبعض الرقصات المعاصرة، ثم تتحول الموسيقا لتكون أكثر ضخباً لتتناسب مع فعل الخيانة، وتصف مشروعها بأنه عبارة عن تجربة مرت في حياتها، فقد خدعت من قبل أناس كان داخلهم عكس خارجهم، لذلك قررت أن يكون مشروعها تعبيراً عما يجول في العالم الخارجي من زيف وخداع، وأيضاً سعيد جربوع كانت لوحته عبارة عن قصة حقيقية وهي جريمة قتل أم لطفلها بضغط من المجتمع والعادات والتقاليد، بسبب خطأ لم ترتكبه وهو الاغتصاب وتصبح مجنونة، وعندما تشفى تسرد قصتها قائلة كنت أربط بطني بقماش، لذلك أخذ الجنين شكلاً عرضياً ولم يظهر علي أني حامل، وعندما ولدته بالحمام سقط على رأسه ومات لكنها لم تعلم بذلك لذلك تخبئه بقلب السرير خوفاً من المجتمع وأهلها، ومن ثم تقوم بطعنه بسيف موجود في بيتها، وعندما تجاوب المحقق كيف استطاعت قتله تقول إن الشيطان هو الذي قتله، وهنا سعيد لم يوفق فقط في أدائه حركات الجنين فحسب بل كانت الموسيقا التي اختارها متناغمة ومنسجمة مع حركة أيدي المرأة وصراخها وهي تضرب على بطنها، وتقول أنا لم أقتله، وقد اعتمد هنا على دراما موسيقية حيث وضع صوت طفل صغير بقلب الموسيقا0
ويشير جربوع إلى أنه أراد أن يدافع عن القاتل والمقتول (المرأة والطفل) فقال: ولشدة تأثري بهذه الحالة الإنسانية قمت بتأليف مقطوعات لوحتي باستثناء مقطوعة واحدة، فقد أدخلت (افيكتات) مثل ضربة الطبل وصوت الطفل...الخ0
ثوب العرس
أما فاتنة صالح فقد تمحورت لوحتها حول الدفاع عن حقوق المرأة ضد المجتمع الذكوري، وتحدثت عن الرجل والخيانة وقد جاءت الإيماءات وإيحاءات حركة الأيدي والوجوه معبرة عن رفضها أن يحق للرجل ما لا يحق للمرأة، ففي كل مرة ينتزع من ثوب العرس قطعة صغيرة، وأخيراً تقوم هي بانتزاع آخر قطعة، للتعبير عن رفضها لهذه التبعية، وكانت لعبت على وتر الموسيقا بشكل جيد يناسب تلك المشاعر المتقبلة حيناً لما يدور في فلكها، والرافضة أحياناً كثيرة لما يفرضه المجتمع والعادات والتقاليد، وبرأيها أن المرأة على الرغم من حصولها على بعض حقوقها إلا أنها لم تصل إلى مساواتها بالرجل0
بينما لوحة مريم الحسن فقد استقت موضوعها من القدرية وما يفعله القدر بالإنسان سواء أكان سلباً أم إيجاباً (حيث يجمع أناساً ويفرق آخرين) وهي هنا تخص الحب، وتصر في لوحتها على ألا تنقطع وشائج الحب بين المحبين حتى ولو وقف القدر في وجه الحب، فيجب أن يبقى الحب مستمراً، وقد جاءت الخيوط البيضاء التي تصل بين الحبيبين وتسحبهما إلى بعضهما البعض معبرة عن شفافية الحب، رغم وجود الإغراء الجسدي والمال وغيرهما، وتصر على أن يبقى الحب أو تجب المحاولة لإبقاء هذا الشيء الجميل وهو الحب، عندما ارتكزت على الأسطورة أي أدخلت الفنتازيا على شكل القدر وكيف أتى الملاك من الحياة بلباسه الأبيض، وأتت الموسيقا هادئة ورومانسية معبرة عن هذه الحالة.
في حين تحدث محمد وفا بوطي في لوحته عن الوضع الذي نعيشه الآن، وقد قدمها بشكل جريء، وتجريدي بعيداً عن المباشرة، فقد جاءت حركات الأيدي والأرجل وتلفت الرؤوس على نحو عشوائي ولا إرادية معبرة عن الحالة التي يعيشها الإنسان بسبب ما يدور من حوله، واعتمد بوطي على موسيقا صاخبة وقوية اندفاعية حيناً وهادئة نسبياً لترتفع بعد ذلك، للدلالة على تنقل الشخص من حالة لأخرى من دون تركيز، وقد ركز كثيراً على حركة الرأس اللإرادية كأنها ردة فعل على ما يحدث الآن. وحسب قوله أراد إيصال فكرة أن الشعب السوري واحد رغم كل اختلافاته وتنوعاته، سواء أكان معارضاً أم مؤيداً بطريقة غير مباشرة.
النفس البشرية
وأخيراً أقل ما يمكن قوله عن هذا المشروع إنه قدم من خلال لوحاته إنتاجاً محلياً وبخبرات محلية يضاهي أي عرض عالمي. وهنا لابد من الإشارة إلى جهود رئيس قسم الرقص التعبيري معتز ملاطية لي الذي التقته «تشرين» على هامش هذا المشروع وكان لها هذا الحوار:
نعلم أن لكل فنان حلماً أو رؤية معينة يعمل عليها ويسعى إلى تحقيقها، هل حققت حلمك، وما هو حلمك؟
الحلم هو مراحل في الحياة فعندما يتخرج المرء من الجامعة يتمنى أن يعرف ويشتهر، وقد حققت هذا الشيء وأنا في التشيك عندما تخرجت في جامعة تشارلز قسم الرقص، لكنني أردت تحقيق شيء جديد بالرقص الشرقي التعبيري لذلك عندما أرسل في طلبي مدير فرقة زنوبيا (حسين ناظم) عدت إلى سورية التي تغربت عنها منذ طفولتي، وعملت على تحقيق شيء ما من حلمي عندما عدت عام 1990، عملت مع فرقة زنوبيا وبعد ذلك أسست فرقة (جمرة) للرقص الشرقي الحديث عام 1994، واستمرت لمدة ثلاث سنوات، وبسبب ضغوط العمل وتعددها لاسيما في مجال المهرجانات وأعمال المسرح القومي والتلفزيون تخليت عن الفرقة.
برأيك هل سيأخذ قسم الرقص التعبيري دوره كبقية الفنون الأخرى، ولاسيما أننا في مجتمع له بعض المفاهيم الخاصة حول بعض الفنون؟
نعم أخذ دوره، فقد تأسس هذا القسم عام 1997، وأول دورة تخرجت عام 2001 وبدأنا نقدم العروض وقد لاقت استحساناً وإقبالاً من قبل البعض، وصحيح كان الحضور فيما مضى يختصر على بعض المختصين وأهالي الخريجين، ولكن الآن نرى أن المجتمع بدأ يتخلص من بعض الرواسب والمفاهيم التقليدية الخاصة تحديداً بالجسد، ولاسيما بعد إدراكهم أنها تعبر عن حالة اجتماعية معينة نطرحها ولا تقصد الإساءة، وقد وضع اللبنة الأساسية له، وما يدل على ذلك متابعة الجمهور العادي قبل النخبوي لكل مسرحياتنا، والشيء الآخر الذي يدل على نجاحه هو اعتمادنا على كفاءاتنا المحلية بعدما كنا نعتمد عبر سنواتنا الماضية على خبراء أجانب.
تعبير الانقباضة
ويشير ملاطية لي إلى أن الرقص أصدق الفنون للتعبير عما يجول داخل النفس البشرية وما يدور في فلكها، وأكثرها اختزالاً وقوة، فمثلاً الممثل يؤدي حالة معينة عبر حوار طويل لكي يوصل الحالة التي يعبر عنها، بينما الراقص يمكن أن يعبر عنها بانقباضة عضلة واحدة من جسده، ويضيف: هو من أصعب الفنون على الإطلاق لعدة أسباب لأنه يتطلب عملاً دؤوباً ويومياً لكي يحافظ الراقص على لياقته، فالممثل مثلاً بعد تخرجه في المعهد لا يتدرب إلا على عرضه، بينما الراقص لا يستطيع الانقطاع عن التدريب حتى ولو لم يكن لديه دور يقوم به على المسرح، لذلك فيما مضى كنا نعتمد على خبراء أجانب، ولكن الآن ومع هذه الخبرات الوطنية الشابة أصبحنا نعتمد عليها في كل مشروع تخرج حيث أقوم كل عام بانتقاء المتفوقين وجعلهم مساعدين مدرسين في المعهد لكي تبقى خبرتهم داخل سورية، أما بقية الخريجين فنقوم بإشراكهم في مشروعات التخرج أو العروض التي نقوم بها كالعروض السنوية والمهرجانات الداخلية والخارجية، وبما أن لدينا فرقاً سورية أخذت تضع بصمتها على الساحة الفنية فلا خوف على هؤلاء الخريجين حيث نقوم بوفدهم لها.
إضافة جديدة
هل قدمتم شيئاً جديداً أو إضافات جديدة على المشروعات السابقة؟
لا يوجد جديد بمعنى الإضافة ولكن الجديد هو المستوى الذي قدمه الخريجون، ففي كل عام يتقدم المستوى عن العام الذي سبقه، لأن الخبرة تزداد نتيجة التراكم، ففي السنة الأولى يقدمون عروضاً مع مَن سيتخرج وكذلك بالسنة الثانية والثالثة، وبذلك يكونون قد شاركوا في جميع عروض التخرج، وهذه الفكرة حديثة قمنا بها منذ خمس سنوات، إضافة لذلك نحن ندرسهم في السنة الرابعة كيف يختارون الرقصات والتصاميم والموسيقا والأزياء، حيث يقدم مشروعه في الفصل الأول، لذلك يقدم الراقص لوحة تخرجه بمهارة وفن.
ذكرت في أحد لقاءاتك أن عملك في المؤسسات لم يكن هدفه المنصب، إذاً لماذا كان عملك ضمن مؤسسات؟
صحيح ليس هدفي المنصب لمجرد أن أتقلد منصباً، ولكن لكي أحافظ على ما بدأت به في هذا المعهد، أي لكي استمر على النهج الذي رسمته وهو تحقيق الحضور المستمر للرقص الشرقي التعبيري، وما عدا ذلك لا يعنيني المنصب بشيء.
دائماً تقدم عروضاً جريئة على المسرح، هل تخشى على مثل هذه العروض في حال صعود تيارات جديدة قد تحاربها؟
الجرأة من طبعي والصادق يقدم رؤيته الفنية كما هي، والمسرح له علاقة بالحياة ونحن نحكي قصة عن الحياة ولكن بشكل درامي، وأغلب شرائح المجتمع تتقبل عروضاً كهذه ولو أنها تتنافى مع بعض عاداتها، ولكن برأيي أن المسرح وظيفته معروفة ولكن يجب تقديمها بطريقة استفزازية وصادقة، وليس بطريقة فنية باردة, لذلك يجب أن يكون المسرح جريئاً وهذه مهمته.
ويختم معتز قائلاً: تكمن صعوبة المشروع من خلال طلبنا من الخريج أكثر من طاقته، فهو من الممكن أن يكون راقصاً ممتازاً ولكن ليس بالضرورة أن يكون مصمماً ممتازاً أو أو....
والأمر الآخر أننا تخلصنا من حالة التهرب من المسؤولية، فقد كان الطلاب يتذمرون أحياناً كيف سيقدمون التصميم والموسيقا والأزياء وفكرة اللوحات، وأنا راضٍ عن طريقة تقديم عروض هذه السنة وعن المستوى الذهني والتصاميم وكل شيء وصل له الطلاب في هذه السنة، وهي الأكثر نجاحاً من بين السنوات الماضية لأنها نتيجة تراكم السنوات الخمس التي بدأنا بها بإشراك الطلبة في تصميم رقصاتهم واختيار لوحاتهم والموسيقا والأزياء وغيرها.