2013/05/29
حسن نصّور – السفير
من الصعب على متابعي الدراما التاريخية الإسلامية، إخراجها من السياق الاجتماعي والسياسي الراهن (صعود التيارات الإسلامية برموزها ورمزيتها) وبالأخص تلك التي تجسد أحداثاً مفصلية، وسيَراً بالغة الدقة والحساسية في التاريخ العربي والإسلامي. ولا تنفكّ دلالات أعمال كهذه تتسع سنة إثر سنة على غير صعيد. تنافس سياسيّ يتلبَّس لبوساً مذهبياً في مقاربة حقب تاريخية تشكل صدعاً حياً في الصراع على ماضي المنطقة وحاضرها. هكذا، تابعنا في السنوات الماضية دراما إيرانية مدبجلة (مسلسلات "المختار الثقفي"؛ و"علي الرضا"؛ و"يوسف الصديق" والإعلان عن إنتاج سيرة النبي محمد)، في مقابل دراما عربية بإنتاج خليجي (الحسن والحسين ومعاوية؛ عمر...)
مع بدء قنوات عربية وأجنبية عرض مسلسل "عمر" مترجماً إلى اللغات الفارسية والتركية والاندونيسية، يبدو جلياً الاهتمام غير المسبوق للجهة المنتجة (أم.بي. سي؛ و"تلفزيون قطر") في الإضاءة بطريقة مغايرة على شخصية الفاروق، ثاني الخلفاء الراشدين، وصانع الحضارة. فبعد الحسن والحسين ومعاوية للمخرج (عبد الباري أبو الخير)، وما تلاه من جدل وخلافات حول إمكان تجسيد تلك الشخصيات، انتقل الجدل في العام الجاري إلى مسلسل عمر بن الخطاب قبل عرضه وخلاله. وفي تصاريح صحافيّة عدة، نفى المخرج حاتم علي، وجود موانع شرعية، تحول دون تجسيد هذه الشخصيات على الشاشة الصغيرة، وأحال صعوبة تقبّل بعضهم لذلك، إلى عوامل نفسية كامنة. وقد أجازت العمل لجنة علماء تضم يوسف القرضاوي، وعبد الوهاب الطريري، وعلي الصلابي، وسعد مطر العتيبي، وسلمان العودة، وأكرم ضياء العمري، مشترطة في مؤدي الشخصية الرئيسية (الممثل السوري المتخرج من معهد الفنون المسرحية حديثاً سامر إسماعيل) ألا يكون له أي تاريخ في الدراما، وأن يتعهد عدم تأدية أية ادوار لعدّة سنوات مقبلة. وجاء ذلك على الرغم من إصرار الأزهر ومفتي المملكة العربية السعودية على رفض عرض العمل تارة بحجة التقليل من هيبة الصحابة، وطوراً بإثارة المشاكل والشائعات حول الهوية الدينية لمؤدي الدور.
لكنّ سيرة الفاروق (بخلاف سيرة السبطبن ومعاوية)، ليست سيرةًَ خلافية وصدامية إلى حد كبير في المصادر التاريخية الكلاسيكية. هذا إذا ما استثنينا بعض الآراء الشيعية الجذرية حول الشخصية. وهذا ما يجعل المتون الحوارية اللغوية بجاذبيتها الأسلوبية المعروفة ومتانتها، إضافةً إلى الأحداث المحورية في حياة الصحابيّ العادل والحازم، نمطية ومكرورة. في حين يسعى المخرج في العمل إلى تقديم شيء مغاير وضخم لا يرى اليه سبيلا إلا من خلال التقنيات المستخدمة، من أمكنة تصوير وديكورات وأكسسوارات وتمثيل ومشهديات، وخصوصاً باستخدام الفيلة في تصوير معركة القادسية الشهيرة (تم التعاقد لهذه المهمة بين الشركة المنتجة وشركات مختصة في بناء ديكورات ضخمة في المغرب تمثل مدينة مكة المكرمة).
من الظلم الحكم على مسلسل "الفاروق" بالنظر إلى السياقات التاريخية للأحداث التي تشكل سردية السيرة العمرية، إذ إنّ متون هذه السيرة مؤطّرة ومنظورة من خلال اللجان الدينية المشرفة على العمل. كما أن نقد السير، لا يقع على عاتق كاتب المسلسل، بل على عاتق نقاد التاريخ، وان كنا لا نزال بعيدين كل البعد عن القدرة على نقل كل الآراء حول الشخصيات التاريخية الدينية المؤثرة في مجتمعاتنا إلى الشاشة الصغيرة لأسباب كثيرة. وليس أهمّ هذه الأسباب إثارة حساسيات مذهبية وسياسية كامنة. كما أنّه من الظلم الحكم عليه مقارنة بأعمال تاريخية أخرى أبدع في إخراجها لنا حاتم علي (كـ"ملوك الطوائف" أو "ربيع قرطبة"). فلكل عمل ظرفه وموضوعاته التي تتسع أو تضيق مساحات الإخراج والكتابة فيها، على التعامل براحة اكبر من خارج المحرمات المعروفة مع الشخصيات، تبعاً للحدود والظروف وكرونولوجيا الأحداث وتعدد الشخصيات.
في الخلاصة، يتجاوز المشاهد العربي من خلال مسلسل "عمر" قطوعاً نفسياً في التماس مع تجسيد شخصيات الخلفاء الراشدين (الممثل العريق غسان مسعود بدور أبي بكر الصديق، والجزائري غانم زرلي لمرة أولى بدور علي بن أبي طالب، وسامر عمران بدور عثمان بن عفان)... وهي، على كل حال، خطوة صغيرة بالاتجاه الصحيح تساهم في تمرين المشاهد العربي على الخروج من بعض مآزق المحرمات الكثيرة في تجسيد الصحابة، الطارئ منها والقديم، والتي لا تستند في أغلبها إلى أساس شرعي صلب. وتساعد هذه الخطوة مستقبلا في التعامل مع شخوص التاريخ والأحداث بموضوعية اكبر ما زلنا نفتقدها في سائر المجالات.