2013/05/29
سامر اسماعيل – تشرين
تشكل البيئة الشامية منبعاً خاصاً للكتابة الدرامية منذ سبعينيات القرن الفائت، فالكوميديا التي قدمتها الدراما السورية من خلال إنتاج «تلفزيون الشرق» في بيروت بنجاح باهر على يد الثنائي «دريد ونهاد» عادت للظهور في مسلسلات «باب الحارة»
و«أهل الراية» و«ليالي الصالحية» و«زمن البرغوت» وسواها على شكل تراجيديا نحّت جانباً كل أنواع المفارقات التي كوّنت فكرةً مهمة عن أساليب العيش والحياة في حارات كانت مفتوحة على بعضها، وليس لها أي أبواب؛ إلى حارات مغلقة لها زعماء ووجهاء «أعضاوات» وشيوخ كار ودين يقررون ويحسمون الاختلافات في كل صغيرة وكبيرة.
إن أعمالاً مثل «صح النوم» و«حمام الهنا» لم تسع لتقديم واقع افتراضي لمشاهدي القنوات الفضائية، فهذه القنوات لم تكن على مساحة بث القمر الصناعي العربي الذي بدأ بثه في مطلع تسعينيات القرن الفائت، أي بعد ذلك بكثير، بل يمكننا عدها وثائق بصرية عن الحياة المدينية الناشئة في دمشق إبان الاستقلال وسنوات طويلة من شغل الفنانين السوريين الرواد على مسارح دمشق، حيث كان افتتاح التلفزيون السوري في الثالث والعشرين من تموز 1960 الفرصة الحقيقية لانطلاقة تلفزيون وطني بعيد كل البعد عن إملاءات المال الذي يدفع الآن ضريبته المشاهد السوري والعربي على حدٍ سواء، مثلما تدفع مدينة بعراقة دمشق ثمنه من خلال تقديمها بالصيغة المغلقة على نفسها في مسلسلات تموّلها شبكة الـ MBC السعودية وفق أجندة صارمة تتدخل بقصد أو من دونه في الخيارات الإبداعية للعمل الفني، فالأجندة هنا لا تعني تعليمات تحددها المحطة المنتجة لهذا المسلسل أو ذاك، بل في فهم القائمين على أعمال ما يسمى «البيئة الشامية» لعقل الرقيب في المحطة المذكورة، وضرورة مغازلته عقائدياً وثقافياً واجتماعياً!.
من هنا جاءت أهمية المقارنة بين أعمال قدمها الرواد عبر كوميديا الموقف، مبتعدين كل الابتعاد عن بكائيات المأثرة الدرامية، وبين أعمال مثل «باب الحارة» وسواها من أعمال ميلودرامية حوّلت أهالي «حارة كل مين إيدو إلو» في «صح النوم» إلى ما يشبه «الشعب الصغير» الذي افتتن بباب حارته، أي حدودها «المناطقية» بين الحارات الأخرى، بينما لا يمكن أن نرى ذلك في «حمام الهنا» المفتوح على السياح والزبائن، ما يجعلني أتساءل عن هذا النكوص الحاد في العمل الدرامي السوري؟ هذه الدعوة إلى التقوقع في زواريب ضيقة، نحو ما يشبه «غيتوهات» بينما يعرف الجميع أن دمشق مدينة مفتوحة على خيارات العيش الأهلي، العيش المشترك خارج أي تصنيفات، وهي ليست على هذه الدرجة من الولاء للحارة بقدر ما كانت ولا تزال مدينة تستوعب كل جديد، ثم تصهره في فرنها الحضاري الخاص، فالذاهب اليوم إلى حارت دمشق القديمة من القيميرية إلى باب توما، وصولاً إلى مركز العاصمة، سيلاحظ كيف بقيت الحارة الشامية عنواناً للتنوع المديني من خلال انتشار محلات السهر وصالات الفن التشكيلي بين بيوت السكن، من دون أن تغير هذه الحارة أو تلك من ملامحها الشرقية الأصيلة.
وفي النظر إلى أمثلة ملموسة عن ردة اجتماعية في المسلسلات الجديدة يكفي أن ننظر إلى واقع المرأة في مسلسل «صح النوم» حتى نعرف حجم التقهقر في الحريات الاجتماعية التي وصلت إليها المرأة السورية في مسلسلات الحارة وأبوابها المغلقة، فمن شخصية «فطوم حيص بيص» التي أدتها الفنانة القديرة «نجاح حفيظ» إلى شخصية «أم عصام» حيث لن تكون المقارنة بين الأنموذجين السابقين في مصلحة «أم عصام» المرأة «الحرملك» التي تقيم الاستقبالات النسائية والواقعة مباشرةً تحت حكم ذكوري مطلق من زوجها وأخيها وحتى من أبنائها، فيما تتمتع «فطوم» باستقلالية تامة عن أي تحكم ذكوري، بل على العكس تماماً، فهي صاحبة «أوتيل» يعمل عندها الرجال ويخطبون ودّها، أي مستقلة اقتصادياً، وخياراتها في الحب والزواج من نزيل فندقها الصحفي الكاتب «حسني البورظان» لا يتدخل فيها أحد، بل حتى خالها «أبو رياح» كان يأخذ برأيها ويستمع إليه، وهي قادرة على التأثير في رجل الشرطة «بدري بك أبو كلبشة»، فيما ترزح «أم عصام» تحت وصاية كل الرجال، فهي امرأة لإنجاب الأولاد وطبخ المحاشي والأباوات.
على مستوى آخر استبدلت المسلسلات الجديدة للبيئة الشخصية الطريفة بالشخصية المأسوية كثيرة الهموم، ليختفي ظرفاء حارة «كل من إيدو إلو» إلى الأبد، فمن «أبو فهمي» «فهد كعيكاتي» وأم كامل «أنور البابا» وياسينو«ياسين بقوش» و«أبو عنتر» إلى شخصيات تغلي بالشر والتجهم والخبث والولاء الأبوي و«البوجقة»، ومن مقالب «غوار الطوشة» البريئة للفوز بفطوم إلى دسائس «أبو النار وصطيف» والغدر القبلي بالخنجر عند مفارق الحارة ليلاً.
فعلاً, لماذا اختصرت المسلسلات البيئية الشخصية الدمشقية بكل هذا التصنيف المدرسي بين شخصيات شريرة جداً وأخرى خيرة جداً؟ لماذا هذه الكتابة التي لم تأخذ بالحسبان أن الشوام حاضرو النكتة سريعو البديهة؟ فمع قرون من الحركة التجارية التي شهدتها أسواق الشام المركزية على طريق الحرير القديم؛ غيّب الكتّاب الجدد ظرفاء الشام وتجارهم. لماذا يطمس كتّاب هذه المسلسلات شخصيات الأدب الشعبي، الأدب الذي كتبه مخايلو الظل والكراكوزاتية وأصحاب صناديق الفرجة وكان في مقدمة الآداب غير الرسمية التي وقفت بالدعابة الطريفة واللاذعة في وجه جور السلاطين وظلمهم و سوء حال الناس وضيقهم؟
لماذا اختفت كل تلك المظاهر المرحة من دراما البيئة لتحل مكانها البغضاء والمآسي والفضائح والمبالغات التراجيدية المصحوبة بموسيقا جنائزية وسوداوية؟
أين اختفت زنزانة غوار ودياب مشهور المليئة بالغناء والتي يدخلانها متى شاءا ويخرجان منها متى شاءا أيضاً، لماذا استُبدِل «كاراكون أبو كلبشة» صاحب الأنف الذي لا يخطئ بسجن «أبو جودت» المتآمر والخسيس عميل المستعمر وأجيره؟ كل ذلك الشطط في كتابة «شام شريف» جديدة لا يمكن تجاهله، ولا غض الطرف عنه رغم نجاح هذه الأعمال وتحقيقها أعلى نسب المشاهدة، لا يمكن إلا أن أقول: إننا خسرنا الكثير من ساعات نضحك فيها مقابل ساعات ممسوكة الإيقاع ومليئة بمشاهد العنف تحت ذريعة التغني بالتراث وبأهل المروءة والكرامة..!