2013/05/29
تمام علي بركات – تشرين
مطر غزير وفتاة وشاب يحاولان إخراج حصان أسود من مستنقع موحل وعيونهما تترصد مجموعة من الانكشاريين يمرون بمحاذاتهما,
لا يفلح الشابان في إنقاذ الحصان فتهرع الفتاة «مريم» إلى القرية لطلب المساعدة, وهنا تبدأ لعبة صاحب رسائل الحب والحرب بالتشابك والإبهام فالخطيب لا يريد للصورة أو للمشهد السينمائي الغائم الرؤية أن يعكس سمات وملامح عصر ما بمباشرة ووضوح لكنه يترك باباً موارباً للطبيعة التبادلية التي تحكم علاقة الواقع أو الزمن المعروض باللغة البصرية الفنية وأن تعكس دواخله الغائمة لإدراكه بأن الفن البصري الأكثر صدقاً بمخاطبته الوعي واللاوعي قادر على عكس واقع تاريخي مغيب بقصد ومن دونه إلا أن صاحب مسارات النور يسعى من خلال حساسية الصورة التي يقدمها إلى أن يخلق ذلك الواقع المرتقب, مانحاً المتفرج تأشيرة عبر الزمن ليعاينه بنفسه, يحياه ويتنفسه, يتبلل بالمطر المنهمر بغزارة في الشاشة الفضية المنتصبة أمامه كحلم يقظة يراوده, وهنا يبدو جلياً تأثر باسل الخطيب بالمخرج العالمي تاركوفسكي رائد الاتجاه القائل بشعرية الصورة والصورة الشاعرة.
يسرد باسل الخطيب فيلمه مريم عبر ثلاث مراحل زمنية تاريخية ترتبط كل مرحلة منه بجملة حوادث ووقائع تاريخية لها دلالاتها الحسية القائمة على ذلك الزمن,تلك الوقائع التي يعيها أغلب السوريين باختلاف أجيالهم كونها ترسخت في وعيهم سواء بالمواد التعليمية أو من خلال الأعمال الفنية كالمسلسلات التي طرحت تلك الوقائع كـ«أخوة التراب» أو «حمام القيشاني» أو «بقعة ضوء», فمريم بالمعطى العام للفيلم هي سورية وهو أي الفيلم يحكي قصة سورية انطلاقاً من الراهن المعيش ليرجع بأسلوب السرد خلفاً إلى المفاصل والمجريات التي تحاكي هذا الراهن سواء بالتقاطع الفعلي مع الأحداث المأسوية التي تمر بها البلد اليوم مع الأحداث والمجريات التي مرت بها سابقاً, سورية والاحتلال العثماني, سورية وحربها ضد «إسرائيل» التي احتلت قسماً من أراضيها انطلاقاً من نكسة 1967,سورية 2012 كما يخبرنا الفيلم والحرب الدائرة فوق أراضيها مع فارق رئيس إن العدو صار في الداخل. تروي تلك الأحداث شخصية مريم بما يحمله هذا الاسم عند السوريين سواء في دلالته المكانية أو دلالته الشخصية.
مريم هي سورية العذراء أبداً, هي التي خاطبها الله وأوحى إليها ,وأغلبنا يعرف قدسية سورية دينياً سواء من الأحاديث النبوية عن كونها في حرز آمين عند الله ومهبط أغلب الديانات السماوية أو دلالتها الشخصية باعتبارها أيقونة المرأة السورية ,الأم الناظرة إلى ابنها فوق الصليب وقلبها مملوء بالإيمان بقيامته من بين الأموات, والأم التي تضحي بروحها لتنقذ ابنها, والأم المستقبلة ابنها العائد إلى أحضانها ملفوفاً بعلم الوطن وهي تزغرد وتبارك زفاف طفلها إلى السماء, مريم إذاً ليست حالة فردية رغم اختلاف الأزمنة بقدر ما هي وجدان المرأة السورية وضميرها وحقيقتها الراسخة التي تعكس بدورها سورية الأم الصامدة المحتسبة, سورية اليقين بالحياة ودوامها وكرامتها وشموخها.
المونولوج الداخلي لمريم بمختلف أطوارها هو استدعاء مفتوح بالمقام الأول لأصوات وصور وتفاصيل كل حسب شرطها الفني وخيارها التعبيري كما إنه تداع حر يستقي أفعاله من الاستدعاء المفتوح بأسلوب مركز ومركب يتمازج فيه السريالي بالصوفي والمنطقي بالغرائبي والواقعي بالسحري بحرفية عالية وارتهان أخاذ لحالة الشخصية وعوالمها الداخلية صدرت به مريم للمتفرج طاقة إيحائية عالية نابعة من الخبرات الأدائية التي تتمايز بها كل من لمى الحكيم وسلاف فواخرجي وديمة قندلفت وعلى الرغم من طبيعة الدور التي ستحدد الشكل أو طبيعة الأداء المطلوبة لإيصال المكنونات الداخلية للشخصية فإن الفنانة فواخرجي تميزت بشكل لافت عندما أعطت الكثير من الزخم والحيوية الديناميكية لشخصيتها سواء بالأفعال التي ولدتها مشحونة بالقدرة التعبيرية الهائلة بتمكنها من أدواتها الفنية برشاقة وتكنيك معقد جداً أو بقدرتها على ضبط الإيقاع الداخلي للفيلم كونها قامت بأداء شخصية مريم في المرحلة الزمنية الثانية من السياق العام للخط البياني العام لـ «مريم».
عمد مخرج «الطويبي» إلى إيجاد رابط زمني منطقي لصيرورة الفيلم عند تقديمه لسورية تاريخياً من خلال المراحل المفصلية التي مرت وتمر بها. سورية التي ستتحرر من نير الاحتلال العثماني في آخر عهده منتهجاً في هذه المرحلة المذهب الرمزي فمريم «سورية الكبرى» تقضي حرقاً وبالها منهمك بإخراج الحصان الأسود من المستنقع «سايكس بيكو» الحصان الأسود حركات التحرر التي انطلقت ضد الاحتلال العثماني وما جوبهت به هذه الحركات من طبقة البشاوات «ضيوف السهرة» المستفيدة من بقاء الهيمنة العثمانية أو المؤامرات العربية التي سعت إلى التقسيم «المطر الغزير» ,ثم مرحلة نكسة 1967 المرحلة المفصلية في تاريخ سورية, وقد ركز المخرج أكثر على تقديم المؤثرات البصرية والمعارك وقدم فكرة مهمة جداً وهي محاولة الجندي «عابد فهد» إقناع الجدة «ضحى الدبس» بالخروج من منطقة الحرب ليومين أو أسبوع على أكثر تقدير لكنها تموت من دون أن تغادر ويستعرض أيضاً الخيانات التي تعرضت لها الجيوش العربية ببيعها السلاح المعطوب, تموت الأم «فواخرجي» وتحيا الطفلة «زينة», وهنا قدم صاحب «موكب الإباء» صورة واقعية نظراً لطبيعة تلك المرحلة التي حددت وجهة سورية حتى المرحلة الثالثة, مرحلة الأحداث الدائرة اليوم في البلد حيث تمثل شخصية مريم فيها الفنانة ديمة قندلفت وصراعها الوجودي مع الأب حول مصير جدتها التي قامت بدورها الفنانة القديرة صباح الجزائري بذاكرتها المثقوبة التي ستقودنا إلى عوالم ومفاجآت ثقيلة, فالجدة هنا ليست إلا الأخت الصغرى لمريم المحترقة ونستطيع أن نلاحظ الربط الذكي للأحداث منذ بدايتها والحل العملي لمشكلة ربط الشخصيات بالخيط الناظم للأحداث منذ بدايتها بصلة القرابة تلك.
يترك المخرج للشخصيات الرئيسة في العمل أن تسرح بعيداً لترسم أفقها المملوء بالأفعال التي قد تبدو لوهلة ما وكأنه فقد السيطرة عليها أو أنها لم تعد ذات أبعاد أو ملامح واضحة ثم لا يلبث أن يعود ويقبض عليها بإحكام لتصبح تلك الانفلاتات الهامشية طوع خياراته الفنية بطريقة طرحها لما يريد أن يقول.
باسل الخطيب مخرج مدرك بجدية لأدواته الفنية وكيفية التعامل معها فهو عندما يذهب نحو الواقعية يبتعد عن كل استطراد يميع كثافة الجو السردي حيث تتموضع شخوصه في مكانها الطبيعي من دون مبالغة مديراً حواراً بسيطاً في ظاهره لكنه مشحون بالقوة الوجدانية المستنهضة من عوالمه الداخلية ومكنوناتها المختزنة من تجاربه الطويلة في عالمين لا حواجز بينهما أقصد السينما والدراما يتداخلان ليقدما مقولة تجمع خصائصهما من دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
مريم ليس فيلماً صنعه الخطيب و«الكاست» الذي يعمل معه بقدر ما هو حقيقة مطلقة تطل على حياتنا الصغيرة تنتقي ما يشدنا ويبقينا على قيد الحياة سواء كنا في السيارة التي خرجت من المستنقع في المشهد الختامي أو كان من ساعد تلك السيارة للخروج شابان من الجيش العربي السوري, وكم كان لافتاً أن ترى زينة وجه عابد فهد الذي أنقذها عام 1967 في وجه من يدفع بتلك السيارة للخروج من المستنقع. مريم سورية, سورية مريم, ما زلت على قيد الحياة.. شكراً للمصادفة السعيدة.