2013/05/29
أولاً, أشكر الأستاذ عهد صبيحة على تكبده عناء الرد على ما تناولته من نقد لنص مسلسل (ليس سراباً)، والذي عبرتُ قي نهايته عن إعجابي الشديد بفكرة المسلسل التي كانت "على درجة عالية من الجرأة والحداثة" ولكن "الفكرة لوحدها لا تستطيع أن تصنع عملاً درامياً", لذا لم أجد مبرراً لأن يشملني السيد صبيحة مع الذين لا يتقبلون الحديث عن التابوهات، كما لم أرَ مبرراً لاستخدام مصطلحات انفعالية من قبيل (الثرثرة عن التآخي والمؤاخاة..). والآن: 1. لستُ أنا, بل مؤرخو الدراما السورية هم الذين اعتبروا أن مسلسل (نهاية رجل شجاع) يمثل فاصلة تحول في تاريخ الدراما السورية، وأنا أتفق معهم في هذا الرأي، كما أتفق مع السيد صبيحة في أن (نهاية رجل شجاع) ليس مسلسلاً عظيماً، ولكن ألا نعتبر جميعنا أن مسلسلات دريد ونهاد (صح النوم، حمام الهنا...) تمثل فاصلة أولى في تاريخ الدراما السورية رغم ما في سيناريوهاتها من سذاجة، ورغم ما يعتريها من استسهال. ملاحظة: نقطة التحول (في الفيزياء، كما في التاريخ) هي النقطة التي تتحول عندها المادة المدروسة من طور إلى طور آخر –وعلى هذا اعتبرت أحداث أيلول،مثلاً، نقطة تحول رغم ما فيها من خراب- ومسلسل (نهاية رجل شجاع) نقل الدراما السورية إلى مرحلة الانتشار العربي- بفضل عبقرية إخراجية كان يمتلكها نجدت أنزور- وذلك بعد فترة طويلة من الكمون، تماما كما فعلت مسلسلات دريد ونهاد حين عرّفت الجمهور العربي على ما يُدعى (دراما سورية). 2. أنا لست من النوع الذي يُقدم الأضاحي، لا أملك معتقداً يُلزمني بذلك، وأنا أثناء قراءتي لمسلسل (ليس سراباً) لم آتي على ذكر أي مسلسل آخر سوى مسلسل (الانتظار)، وذلك بغية التمهيد للكتابة عنه، وأنا أكاد أجزم بأن (الانتظار) أحد أهم المحطات الدرامية السورية، وبالتالي لا أرى داعياً للجملة التالية التي أوردها السيد صبيحة (هذا العيب لا يجعل من المسلسل أضحية العيد من أجل باقي الأعمال الدرامية السورية، الهابطة بالتحديد..)، كيف وصل السيد صبيحة إلى استنتاجه هذا من مقالي؟! 3. قبل أن أُكمل حديثي، أدعوكم لتأمل هذه العبارة: إن تقديم صورة "ابن عاهرة" أكثر تأثيراً من الناحية الدرامية من تقديم صورة شخص عادي طيب. هذه العبارة هي للمخرج الفرنسي جان رينوار، وقد أوردها سيد فيلد في كتابه الشهير-والذي قرأه معظمنا- لغة السيناريو، ص30. 4. كيف للصراع ألاّ يكون عنصراً أساسياً من تكوين العمل الدرامي، بل كيف للدراما أن توجد بلا صراع؟، طبعاً في كلام السيد صبيحة إقرار صريح بخلو (ليس سراباً) من الصراع، لكن ليس هذا هو المهم، المهم هو أن هناك مجموعة كبيرة من المفاهيم الخاطئة التي تكرست في ذهن الجمهور، جعلت من الاستسهال منهجاً في النقد والمتابعة، كيف لنا-مثلاً- أن نقارب بين رواية (ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ)، وبين رواية (ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي)، والتي وصفها نزار قباني بأنها (بحرٌ من الحب، بحرٌ من الجنس، وبحرٌ من الايديولوجيا..) ولكنني أقول إنها في النهاية ليست رواية!! نعم يا سيد عهد، إن غياب الصراع الدرامي هو المشكلة الكبيرة التي أصابت معظم الأعمال المعاصرة، والتي نزلت بهذه الأعمال من مستوى القص إلى مستوى اليوميات العادية.. 5. إن مأخذي الأساسي على شخوص فادي قوشقجي (وقد أتى مسلسله الجديد عن الخوف والعزلة ليدعم رأيي هذا) أنها لا تصل أبداً إلى مستوى البطولة، لا يملكون الطبيعة الملحمية الاستثنائية –والتي أطالب بها كناقد جدي ومهموم- وشخصياتنا الدرامية، أعود وأقول، يجب أن تمتلك إمكانية الإبحار بين ضفتي المعقول و اللامعقول، تماماً كشخوص تولستوي، أو دان براون، أو أمين معلوف.. لمَ لا؟ هل نقرأ؟ نحن كتاب السيناريو، ونقاد الدراما، ونقاد النقاد.. هل نقرأ؟.. لا لشيء، فقط كي نتمكن من الانتقال من منتهى اللذة إلى منتهى الألم، كي لا تصبح شخوصنا جامدة.. كي نتحمل مسؤولية أن هناك يشاهدنا، ويقرأنا، ويتابعنا... 6. إن إعجابي بمسلسل (الانتظار) –وكذلك بمسلسلات كأسعد الوراق- ينبع من الطبيعة الاستثنائية لأبطال المسلسل: خريج ملجأ أيتام، لصٌ صريح، بلطجي، ولكن تلتقي فيه كل متناقضات مجتمعه، لذلك، وعند مقتله، انهارت كل الشخصيات التي كانت تدور في فلكه، وبشكل منطقي، إذ كان يمثل أمل الحارة الجديد في الإصلاح، هذا الحرامي المنبوذ، هو الأمل، وهنا بالذات تستقر طبيعته الاستثنائية، يشبهنا ولا يشبهنا، هذا ما قصدته عند تكلمت عن ربط العادي بالاستثنائي، وهذا ما نبحث عنه، لأن النص (أي نص درامي أو شعري) هو في النهاية ليس مجرد مذكرات لا تعنينا تكتبها مراهقة في السادسة عشر من عمرها، النص يجب أن يكون كاشفاً للألم.. 7. يجب أن نخطو خطوة باتجاه النقد الدرامي، أن نتناول العمل الدرامي، كما نتناول العمل الأدبي، بجدية كبيرة، وبدون أي استسهال، وذلك لأن الدراما، وبحكم كم المتابعة الهائل، أصبحت تشكلنا ثقافياً أكثر بكثير مما تفعل الرواية.. 8. مرة أخرى، أرجوكم أن تتأملوا هذه العبارة: (إن تقديم صورة "ابن عاهرة" أكثر تأثيراً من الناحية الدرامية من تقديم صورة شخص عادي طيب، وهو أمر جدير بالتفكير). محمد جرف 17/09/09 دمشق