2012/07/04
مارلين سلوم – دار الخليج
يجلس البعض أمام الشاشة بكل جدية والعبوس يكلل عينيه كأنه يحمل أقواساً ستنطلق سهامها في أي لحظة . مستنفر متأهب لسماع الأخبار السياسية وتفاصيل الأحداث وتحليلات الضيوف والخبراء والعلماء وكل الجهابذة الذين يجلسون بدورهم بكل عبوس ووقار خلف الشاشة . أمامه الضيوف يتكلمون ولا يسمعون، وهو يسمع ولا يتكلم .
الشاشة تدعوه للتواصل معها، وتفتح أمامه أكثر من خط هاتفي . يفكر في الاستفادة من العرض وتحقيق أمنية طالما راودته، حيث كان يتمنى دائماً أن يسمعه أي مسؤول وأن يأخذ أحدهم برأيه . يتحمس ويقرر المشاركة فيكتشف أن صوته يتردد لكن الصدى مقطوع، ولا فائدة من الكلام . يعود إلى مقعده “يتفرج”، لكن الشاشة تغريه وتدعوه بإلحاح إلى الاتصال، والمذيع يكرر أرقام الهواتف وكأنه يتوسل .
يفكر ألف مرة في الجالسين على المقاعد الموزعة على القنوات والبرامج، قلة منهم تفقه ما تقول وتعني كل كلمة تنطق بها، والمسؤولية تقطر من كل مسامها ومن روحها، أما الباقي فيحكي ليخدم مصلحته الشخصية ومصلحة “أسرته” السياسية وأفكارهم، ومن أجل الحفاظ على “البيت” كما يسمونه ويقصدون به الحزب أو التجمع وأحياناً الوطن .
أراد أحد هؤلاء المشاهدين أن يشارك بتوجيه رسالته الخاصة عبر الشاشة، فتصرف بعفوية وبساطة، واتصل بقناة “النيل الثقافية”، وراح يحدث مذيع البرنامج السياسي الرصين بكل احترام، ولم ينس الثناء على ضيوفه، الذين يتحدثون عن آخر مستجدات الثورة، وشاركهم المشاعر الوطنية واستنكار ما يحصل من فوضى، قبل أن يستغل البرنامج والبث المباشر ليوجه رسالته الخاصة إلى أولاده وزوجته، لأنهم أغلقوا هواتفهم النقالة والموضوع حساس ومهم “فنحن نعاني في الصحراء الغربية من البرودة” وتابع يقول لأسرته “يا تلموا الغسيل يا تحطوا عليه مفرش لأن الدنيا بتمطر” . طبعاً المذيع قطع الاتصال وأحد الضيفين اعتبر أن الكلام موجه إليه والمقصود به إهانة .
“الواقعة” أصبحت حدثاً تتناقله كل المواقع الاجتماعية ونال نصيبه الوافر من التعليقات الطريفة . وهو ليس أول مطب يقع فيه مذيع برنامج يتلقى الاتصالات المباشرة على الهواء، لكنه يأخذنا إلى السؤال عن مدى قدرة المذيعين على اجتياز مثل هذه المطبات البسيطة والعفوية، والخروج منها بفائدة وبسرعة بديهة .
لا ينتبه أهل الإعلام المرئي الحديث أنهم يستغلون الشاشة للدعاية لأنفسهم ولقنواتهم ولأفكارهم، وأنهم يتاجرون بالمشاهدين ويستغلونهم . وللأسف، لا يتوقع هؤلاء أن يبادلهم المشاهد هذه الصنعة أو اللعبة، فيشتري منهم الهواء للحظات مقابل أن يرسل صوته ويوهم نفسه بأنه يشارك في صنع القرار . أليس هو من يتكلف ثمن المكالمات والانتظار بالدقائق والساعات قبل أن يسمحوا له بالكلام لثوانٍ معدودة؟ وألا يقولوا له إن القنوات والبرامج “منكم ولكم”؟ لذا يحسب البعض أن من حقه أن يشتري الهواء مقابل أن يوجه رسالته الخاصة لمن يشاء .
لا أحد يحق له أن يمتلك الهواء على حسابه، ولا أن تختلط الأوراق بهذا الشكل الساذج، وتصبح البرامج منابر للم الغسيل وغسل الأطباق، لكننا لا نلوم آدم عمر الذي تصرف بعفوية، بقدر ما نلوم “أهل الإعلام” الذين حولوا الشاشة إلى منشر لغسيل السياسيين والفنانين والشخصيات العامة بكل فئاتها قبل أن تنتقل العدوى إلى كل الناس .
ألستم أنتم من جعلتم لغة الشاشة هي لغة الشارع، ألم تكن البداية مع تلفزيون الواقع وطلبتم من الناس أن يشاهدوا مجموعة شبان وفتيات أغراب عن بعض، ومن دول مختلفة، يسكنون بيتاً واحداً، وسلطتم الكاميرات عليهم 24 ساعة في اليوم ولمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وكنا “نتفرج” على مشاحناتهم ونميمتهم وغرامياتهم، وفي المساء نرافقهم حتى السرير ونسمع “شخيرهم”؟
وأنتم من أخذتم الكاميرا إلى المحالّ والشوارع ونصبتم الفخاخ في الاستديوهات لتصوروا تصرفات الناس العفوية وردود أفعالهم على مقالب “الكاميرا الخفية”؟ ثم جاءت الثورات ففتحتم الأبواب واسعة لتلقي اتصالات الناس ولقطاتهم التصويرية ومشاهد الفيديو، وأطلقتم عليهم مسمى شهود العيان ثم “عيّنتموهم” (بلا مقابل) مراسلين إخباريين تتواصلون معهم عبر الهاتف النقال لمعرفة “آخر المستجدات” في الشارع؟
ألم تجعلوا من أي عابر سبيل وأي طفل أو شاب أو كهل “مصدراً موثوقاً” فتتركوا له الهواء ليقول ما يشاء بلا رقيب ولا قطع إرسال؟
إذن، لماذا تفاجأتم بذلك الأب الذي يستغل الهواء ليقول لأولاده ببساطة أشبه بالنكتة “لمّوا الغسيل”؟ على الأقل هو لم يستخدم السب والشتم كما يفعل بعض السياسيين والمفكرين على الهواء!
ليت أهل الإعلام “يلملمون” أوراقهم ويعيدون حساباتهم كي تنضبط البرامج والشاشة ويعود إليها الوقار والاحترام في البرامج السياسية والإخبارية والحوارية، قبل أن يستغرب المذيع نداء “لمّ الغسيل” .
* * *
“الغناء الوطني” مشروع أطلقته وزارة الإعلام المصرية لتخليد ثورة 25 يناير، لكنه يلقى رفضاً من قبل بعض المطربين لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بالأجور ومنها لشروط يفرضها الفنان قبل الموافقة . قبل البت في شأن القبول والرفض، نسأل ماذا تعني الأغنية في وقت المحن؟ أهي دواء للجراح أم إعلان موقف سياسي والتباهي به، أم دعم وبث الروح الوطنية في نفوس الناس؟ وإذا كان الشارع منقسماً بين ثائر ورافض للثورة، والمغنون والممثلون منقسمون أيضاً، فلمن تغني طيور الفن؟
22 أغنية تم تسجيلها إلى الآن، ولا أعتقد أن الحدث وذكراه كانا بانتظارها، أو أن شيئاً ما سيتغير بعد صدورها . ألم يكن أفضل أن يلتئم شمل الفنانين ويقدموا أعمالاً اجتماعية تفيد الوطن إلى أن يستقر الوضع وتتضح الرؤية ومن ثم يصدح من يشاء بأغانيه الوطنية؟ فالنظرة إلى الغد والعمل عليه أفضل من غناء الطيور فوق القبور .