2012/07/04
كنت ربة بيت في سويسرا عبد الحليم حافظ من ذكرياته الطريفة عن رحلته الأخيرة ذكرى تلك الأيام التي قضاها في جنيف ناقهاً، بعد أن ذهب إليها من لندن حيث كان يستشفى، وكان ست بيت يعد (الطبخة).. فتثير إعجابك. عندما حملتني الطائرة من القاهرة انهمرت الدموع من عيني غزيرة صادقة، فقد كان وداع الأحباب حاراً من القلب، وكنت في حياتي لم أصادف هذا الفيض من الحب يغدقه علي الذين يعرفونني والذين لا يعرفونني، وأحسست وأنا في الطائرة أنني قريب من السماء، قريب من الله... ألا نرفع رؤوسنا لأعلى لندعو ؟ ودعوت الله بدموعي أن أعود سالماً حتى يفرح الذين ودعوني، وحتى أرد لهم بعض من غمر حبهم! وأسلمني حالي لاضطراب شامل، فقد وجدت نفسي في لندن محاطاً بالأطباء، غارقاً في الفكر، وتوالت عمليات الفحص، وأنا أرى الوجوه وعليها الاهتمام بكل شيء، ونظام الطعام يمضي في دقة، وأنام مع الثامن وأصحو مع الخامسة وطعام غذائي في الظهيرة. وكنت التلميذ المطيع، فقال لي الدكتور تانر – طبيبي المعالج – أنه سيكافئني على هذا الامتثال– فيسمح لي بالخروج من المستشفى في الضحى على أن أعود في مواعيد الغذاء.. ولك أن تعلم أن الضحى هو العاشرة مثلاً فلا بد أن أعود في الثانية عشرة، وإذا استرحت بعد الغداء وخرجت في الخامسة لا بد أن أعود قبل الثامنة لأنها ميعاد العشاء ثم أنام! على أي حال كنت سعيداً بهذه المكافأة، وكان الأصدقاء ينتظرونني لنتنزه، أصدقاء من كل بلاد العروبة... حتى من العراق جاءني طلبة كثيرون كانوا من قبل مترددين خشية أن أرفض مقابلتهم نظراً لما كانت عليها العلاقات بين حكومتينا من توتر. ولجأوا إلى الدكتور زكي سويدان لكي يحدد موعدا لهم عندي.. وقابلتهم بترحاب وقلت لهم أن شعب العرب الذي تجمعه قومية العرب لا تفرقه السياسة... حادث حدث في تلك الأثناء هزني هزاً.. كان الملك حسين على وشك الوصول إلى لندن والتقليد في انكلترا أن يستقبل الملوك طلبة الكلية الحربية (سانت هاريس) الذين ينتمون إلى بلد الضيف. والطاعة محتومة، وجزاء مخالفتها الفصل الذي لا يعرف الرحمة، وقد وجه قائد الكلية نداء إلى الطلبة العرب في سانت هاريس بأن يستعدوا لاستقبال الملك حسين. وفوجئ القائد بشيء يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الكلية العتيدة ذات التقاليد الصارمة فوجئ بالطلبة العرب يتقدمون إليه في خطواتهم العسكرية ويطلبون أن يسمح لهم بالحديث فلما سمح قالوا له أنهم مضطرين إلى رفض استقبال الملك حسين، وأنهم يعرفون أن العقوبة هي الفصل، ولكنهم لا تطاوعهم مشاعرهم على استقباله... ويفضلون أن يفصلوا! وكان عددهم كبيراً... إن اعتبارات أخرى قد تسيء إلى الموقف إذا فصل هؤلاء الطلبة وذاع الخبر على العالم كله. فما كان من القائد – الحكيم – إلا أن وافق! أحسست وأنا أسمع هذه القصة أن القومية العربية أعلنت عن وجودها بإباء وكبرياء وعناد في لندن أيضاً... وبعد أن اجتزت مرحلة الفحص تأكدت حقيقة... أنني مريض بشيء اسمه الحساسية ودرجته عندي هي درجتها عند أي مخلوق حساس جداً مضروبة في مائه، واختار لي الطبيب أن أغادر المستشفى على أن أقيم بضعة أيام في لندن فأقمت في شقة صغيرة في عمارة تؤجر كلها بهذه الطريقة، ومكثت بها وكنت أتردد على المستشفى حتى اطمأن الطبيب إلى أنني سليم معافى فأذن لي بالسفر. وعرجت على سويسرا... وقررت أن أبحث عن قرية على قمة جبل حتى أستمتع بالهدوء وسحر الطبيعة، ولكن الدكتور سيد كريم التقى بي في جنيف وقال أن البحث عن سكن قد يكلفني أسبوعاً كاملاً، وأنه يفضل لي أن أقيم مع ابنه الذي يدرس في الجامعة هناك، وابنه يقيم في شقة في ضاحية راقية بعيدة عن ضجيج المدينة وصخبها... وعاينت الشقة فأعجبتني وحملت إليها الحقائب! ولم يكن معنا خادم، والخادم في سويسرا يتقاضى ما يتقاضاه موظف الدرجة الثانية عندنا. ولهذا اخترنا أن نخدم أنفسنا، أنا شخصياً مدرب على هذا كله من أيام الغربة والتلمذة، أيام كنت في معهد الموسيقى وكنت أشتري الخضار واللحم من السوق، وأعود إلى البيت وأطهو الطعام لي ولأخي إسماعيل! فعلت نفس الشيء في جنيف، كنت أخرج في الصباح كأي ست بيت ممتازة، وأحمل حقيبة فارغة، وأعود بها بعد ساعة وهي ملأى بالخضراوات واللحم والفاكهة وأعكف على البطاطا فأقشرها، وعلى اللحم فأحمره، وأعد السلطة... وأنتهي من الطبخ قبل أن يعود مضيفي من الكلية. ويسبق الطبيخ عملية الكنس وكنا نتعاون فيها أما ترتيب الفراش فقد كنت أتقنه أكثر مما يتقنه مضيفي، وأحس صاحبنا بسعادة كبرى وهو يجد خادماً مطيعاً، ولهذا كان يصرفني عن مشروعات الرحيل كلما صممت على الرحيل، ويقول لي أن سويسرا أجمل مكان في الدنيا. ولسان حاله يقول أن طبيخي أجمل طبيخ في سويسرا! وكانت الحياة البسيطة تلك تروق لي. كانت شيئاً آخر غير الذي اعتدته في السنوات الأخيرة، وكنت أجد شهية في التهام الطعام الذي أعده بنفسي وكثيراً ما كنت أتخاطف مع صديقي قطع اللحم... أليست هذه كلها فاتحات الشهية! وعرجت على إيطاليا في طريق العودة... إيطاليا بلد لا يمكن أن تشبع منه. ترى آثاره وروائع فنونه عشر مرات وتحس كل مرة أنك تراها لأول مرة، لأنك دائماً تجد شيئاً جديداً فاتك أن تتأمله في مرة سابقة... والمسارح في إيطاليا رائعة، خاصة تلك التي تشاهد مسرحياتها وأنت بين آثار تروي المجد الغابر. كم تمنيت لو طبقنا هذه الفكرة عندنا فإنها تطفو وتغوص عدة مرات كل عام! وقضيت العيد في إيطاليا لأن الطائرة تأخرت عن موعدها، وكنت في حزن لأنني قضيت العيد بعيداً عن أهلي وأحبابي، وكرهت إيطاليا لأنها حرمتني من (التعييد) في القاهرة، ولكني عدت بحصيلة طيبة من الذكريات... وعدت بأثمن ما أسعد أصدقائي وناسي... عدت بصحتي! الموعد 1959.