2012/07/04
حسن م. يوسف – الوطن السورية
ضبطني موظف الاستقبال شارداً، فقال لي بلطف: «أعزيك بوفاة الفنان القدير خالد تاجا، الله يرحمه، من خلَّف ما مات».
كدت أقول له إن الفنان الكبير خالد تاجا لم ينجب أبناء، إلا أنني أمسكت في اللحظة الأخيرة، إذ خطر لي أن إبداع الراحل الكبير خالد تاجا (خلَّف) له في كل بيت سوري وعربي ابنة وابناً، وأختاً وأخاً، وأماً وأباً... ولا شك أن قرابة الروح أنقى وأبقى من قرابة الدم والماء!
استلقيت على سرير غرفة الفندق وأنا بكامل ثيابي ورحت أستعيد اللحظات التي جمعتني مع خالد تاجا. شعرت بالفخر لأنني عرفت الرجل ولأن بعض كلماتي وصلت إلى قلوب الناس من خلاله. تذكرت الدور الذي أداه في الجزء الأول من (إخوة التراب) عندما يجرده الأخذ عسكر من ولديه وتمعن زوجته في القسوة عليه، فلا يكون منه إلا أن يذهب إلى المقبرة ليحفر قبره بيده، ومن قاع القبر الرطب الضيق يواجه السماء فيناجي ربه قائلاً: «اللهم أنت أعلم بحالي من كل عليم! اللهم إني أعلم أنك قد سميت الموت مصيبة، لكن المصيبة الأعظم هي الغفلة عن الموت والإعراض عن ذكره، وقلة التفكير فيه! اللهم قد قلت سبحانك مخبراً عن يوسف عليه الصلاة والسلام لما نال الرسالة منك: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين). اللهم، قد ضاقت الدنيا بي وزاد كربي، فارحمني يا أرحم الراحمين. «هنا تغيم السماء إذ نراها من خلال عينيه المملوءتين بالدموع»، فيتابع قائلاً: «اللهم لا اعتراض على حكمك، اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي».
عندما التقينا لأول مرة بعد عرض المسلسل تعانقنا بصمت عابق بالعاطفة. قال لي إنه شخص «مطقطق» من عادته أن يضع لمسته الخاصة على أي دور يؤديه، فيحذف ويضيف ويقدم ويؤخر في الحوار، لكن في إخوة التراب «... لم أستطع أن أزحزح كلمة من مطرحها كما لو أن النص صبة بيتون... وأنا أعترف لك أن بكائي في المشهد لم يكن تمثيلاً». يومها عانقت خالد تاجا مجدداً وأبلغته أن دموعي أثناء الكتابة كانت حقيقية أيضاً.
والآن بعد مرور نحو ربع قرن أعترف أن كلمات خالد تاجا تلك كانت أجمل إطراء تلقيته في حياتي على كلام كتبته للتلفزيون. صحيح أن الدور الذي أداه خالد تاجا في الجزء الأول من (إخوة التراب) لم يكن كبيراً من حيث عدد المشاهد، لكنه كان كبيراً بشكل استثنائي من حيث مستوى الأداء، وأنا أؤمن أنه ليس هناك دور كبير ودور صغير بل هناك ممثل كبير وممثل صغير، وقد مزج خالد تاجا تلك الشخصية ذات الحضور المحدود بضوء روحه العالية وموهبته اللامحدودة فحولها إلى علامة فارقة في تاريخ الدراما العربية.
ثمة سؤال لا أستطيع الهروب منه: هل بلغ تأثر خالد تاجا بشخصية الأب في إخوة التراب لدرجة أنه قام مثله بحفر قبره بيده؟ الشيء الأكيد هو أن خالد تاجا هيأ قبره بنفسه فعلاً وكتب عليه:
(مسيرتي حلم من الجنون.. كومضة شهاب.. زرع النور بقلب من رآها.. لحظة ثم مضت).
(يضج بالحياة ) لست أعرف شخصاً تنطبق عليه هذه العبارة أكثر من خالد تاجا، وهو إلى ذلك، ظريف لطيف لمَّاح. حكى لي مرة أنه راح يصدر همهمة غامضة في حين كانت أخت زوجتي مصممة الأزياء المعروفة رجاء مخلوف تلبسه الزي الذي سيظهر به أمام الكاميرا، سألته عما به، فقال لها: «نحن المسلمين موعودون بالحور العين في الجنة، وقد كتبت اسمك». بعد بضعة أيام وبينما كانت تلبسه زياً آخر راح يصدر الهمهمة الغامضة نفسها، فقالت له ممازحة: «ما بك أستاذ خالد؟على أساس كتبت اسمي، وخلصنا!» قال لها: «لا، شطبته» سألته ممازحة عن السبب فقال «ما بقدر انتظر».
ما يوجع القلب هو أن رجاء كتبت على صفحتها في الفيس بوك:
«كان لي شرف تصميم آخر بدلة ارتداها الفنان الكبير خالد تاجا في مسلسل (الأميمي).. عندما جربناها كانت كبيرة قليلاً عليه لأنه صار أكثر نحولاً.. قلت له أستاذ خالد سوف أرسلها للخياط لنضيقها قليلاً.. قال لي لا، لا.. اتركيها كما هي.. ما زال كتفي بيحمل.. ثم ضحك بشحوب وقال لي ما زلت يا رجاء متألقة وجميلة كما عرفتك في أول عمل، حافظي على ذلك لأطول مدة ممكنة.. لم أكن أعرف أنها وصية.. كم أتحسر أنني لم ألحق أن أزورك لأشكرك على كل شيء.. نفتقدك.. ارقد بسلام»!
خالد تاجا، يمضي شيء منا معك، وتبقى أشياء كثيرة منك معنا.