2017/03/27
سبع مقالات تصدر بمناسبة اليوم العالمي للمسرح
خاص بوسطة - بشار عباس
-1-
عصور ما قبل الكاميرا الفيلميّة
يُمكن تحديد أجل مسمّى للحادثة المروّعة الّتي تعرّض لها المسرح؛ لقد دُهس تحت عجلات القطار الذي ظهر
في فيلم الأخوين لوميير (وصول القطار – أقلّ من د – عام 1895)؛ إذْ أصبح بالإمكان ليس فقط تسجيل الزّمن، بل ووضع الجمهور في مكان للمُشاهدة قد لا يتوفّر له في الواقع نفسه، هكذا ودفعة واحدة ظهر فنّ يُحاكي طريقة دماغ الإنسان في العمل، في التّفكير، في التذكّر، وفي الحلم أيضاً، هنري برغسون يقول: العين البشريّة هي الكاميرا، والدّماغ هو شريط السيلوليت، أمّا الذّاكرة التي تستثني، وتحذف، وتقطّع، وتحوّر، وتعطي أهميّة لذكريات ما على حساب ذكريات أُخرى فهي: المونتاج، بالاعتماد على رأي الفيلسوف المجيد يُمكن القول: ما تمّ اختراعه وقتئذ لم يكن السينما، بل: الكاميرا، أمّا السّينما فهي موجودة مع الإنسان مذ وُجد.
إعلان وفاة هذا الفنّ حدث على يد المخرج الرّوسي دزيجا فيرتوف،في فيلم The man with movie camera 68 د – 1929، الفيلم يقول: ها أنا الكاميرا،أكون حيث أريد،أركض بجانب العربات،أقف على مفترق سكك حديدية،أعلى مدخنة شاهقة ،أتوّقّف أو أمشي متى يحلو لي، أطير فوق تدفّق شلّال مهيب، وأرصد رأس طفل يخرج لحظة الولادة، وها أنا المونتاج: أضع أي نقطتين في موضع السّرد، ما تظنّون أنّه غير قابل للمقارنة يُمكنني مقارنته بعضه ببعض، يُمكنني السّرد على طريقة الذّاكرة،وعلى طريقة اللّغة، أعرض الأحداث كما تحدث في الواقع،أو أسرع، أو أبطا ، أجمّد الصّورة وأدمجها، أقترب من عيني طفل حتّى الخطّ الفاصل بين البياض واللون.
يقول دوستويفسكي على لسان إيفان كارامازوف: من الطّبيعي أن يقف الكهنة ضدّ العلمانيّة، لأنّهم إذا تحقّقت فماذا سوف يشتغلون ؟ هذا ينطبق على المسرحيّين كذلك؛ الأمر الفادح والخطب الجلل صار أكثر إلحاحاً مع بداية النتاج الهوليودي أواخر العشرينات ومطلع الثّلاثينات؛ في ترسيخ حقيقة أنّ الفيلم هو وسيلة " القصّ " الأولى، منافساً الرواية والمسرح في فنّ القصّ، فماذا تفعل هذه الطائفة الفنّيّة الّتي تعود في طقوسها الغريبة إلى زمن سحيق: عندما كان يُلقى الإنسان للضواري للفُرجة والتّسلية ؟
لديهم نقطة قوّة لا يُمكن تجاهلها؛ إنّ بحوزتهم نصوص مسرحيّة ضاربة في القدم، من الفترات الفرعونيّة، السّومريّة، اليونانيّة، الرومانيّة، العصور الحديثة، العصور المعاصرة، وهي كلّها متوفّرة معاً، وسهلة القراءة والفهم، ولكنّ قيمتها ليست من قيمة هذا الفنّ نفسه (كدراما) بل من السويّة القصصيّة الّتي تتضمّن عليها، وهي قيمة "روائيّة" وليست مسرحيّة، على افتراض أنّ الحديث هنا عن النصّ قبل أن يؤدّى، فتشيخوف يُقرأ كما يُقراً تولستوي، وشكسبير كما ديكنز، وشيللر كما غوته، وهناك ميزة سوف ينتبه لها أولئك: الحضور الشّخصي للممثّل على مرمى من الجمهور، وعلى هذا سوف تكون محاولة الثّأر لهذا الفنّ المغدور، أو: لأبي الفنون الذّي يُجيد أن يحترق ويولد من رماده، شقيق العنقاء التّوأم.
عندما يظهر فنّ جديد من نفس عائلة فنّ قديم، ويشترك معه بخصائص، فإن صراعاً ضروساً ينشب بينهما، ظهور التصوير الفوتوغرافي لم يؤثّر في الموسيقى، ولم تكترث له، فما شأنها بذلك؟ ولكنّه كان تهديداً وجوديّاً للفن التّشكيلي؛ إنّ لهما عدداً من المُشتركات، فلم تعد مهارة الرسّام في محاكاة وجه أو منظر أمامه، طالما بالإمكان الحصول عليه بكبسة زرّ، ولذلك دافع التّشكيل عن وجوده في ما ليس يمتلكه الفوتوغراف، أي: في إضافات الفنّان الشّخصيّة – حتى هذا يمتلكه الفوتوغراف نسبيّاً - على الواقع المنقول، هذه الإضافة أخذت تكبر وتزداد على حساب ذلك الواقع، إلى أن حذف في أخر المطاف، على نحو كامل أو جزئي، فظهر ما يُعرف بـ: التّجريد.
إذا كان الإنسان قد دخل التّاريخ باختراع الكتابة، إي في تمكّنه من توثيق الأحداث عبر الرّموز، وصار يصنّف إلى ما قبل وما بعد اختراع الكتابة، فكيف يُمكن تصنيف التاريخ وفقاً لما بعد وما قبل اختراع الكاميرا؟ آخذين بالحسبان أن اختراع الكاميرا لا يقل أهميّة –ولعلّه يزيد– عن اختراع الكتابة، لأن الأخيرة ترمّز اللغة، الّتي هي في طبيعة الأصل ترميز أيضاً يحتاج إلى فكّ شيفرات، أمّا الكاميرا فتسجّل الزّمن مباشرةً دون وسيط، يُمكن اصطلاح التّالي: الإنسان دخل التّاريخ "المرئي – المحفوظ – اللا لغوي " باختراع الكاميرا، وعليه فإنّ المسرح كفنّ درامي، كونه يعتني بنفس عناصر الفيلم الرّوائي (قصّة – شخصيّة – حبكة – بناء - ظروف – أداء تمثيلي – موسيقى – ديكور - مقولة) فإنّه المعبّر الفنّي الأبرز -تأريخياً- عن عصور ما قبل التّاريخ المرئي – المحفوظ اللا لغوي، كهنة عصور ما قبل التّاريخ المرئي المحفوظ اللّغوي سيدافعون عن وجودهم، أسوةً بالتّشكيليين الّذين عثروا في التّجريد على طوق نجاة من وحش الفوتوغراف.
يجب على معشر المسرحيين إذاً التكشير عن أدوات لا تمتلكها الشاشة؛ وهذا سهل: في الشاشة لا يُمكن التواجد مع الممثّل في حيّز مكاني واحد، لا يمكن – فرضاً – القفز والإمساك به، هُنا الميزة الكبرى، وتلك كانت ضراعة الاستهلال، يجب التّركيز عليها وشحذها إلى أقصى مدى، ومناوئة الشّاشة وفق مبدأ: تعرض لك ما يحدث ولكن تفصلك عنه.
كسر ذلك الجدار كان يجب ان يُساق ضمن نظريّة مهيبة، الماركسيّة في أوجها، وها هو برتولت بريشت يستعير منها توصيف الفنون على أنّها جزء من الأيديولوجيا، أو: وسيلة المُستغليّن في السّيطرة على المستغَلّين – الأولى بالكسر والثّانية بالفتح – وهي الأيديولوجية كتعريف هكذا: وهم لا يجد شروطه في ذاته، بل في الإنعكاسات الماديّة للفعّاليّات المادية، أو لوسائل الإنتاج بتعبير آخر، وعليه يجب كسر هذا الوهم – الإيهام – كي يتوقّف الفنّ عن هذه المكيدة، والجدار الرابع هشّ وفي المتناول، ويجب الفصل بين العرض الدّرامي وبين الجمهور، وذلك في سبيل درء حالة التّماهي بين الجمهور والفنّ، ليأخذ موقفاً نقديّاً منه!!! وقع ذلك في وقت كان الفيلم - ولم يزل - يرى أنّ نجاحه إنّما يكمن في خلق حالة التّماهي هذه، في خلق الحزن، الفرح، الرعب، الحماس، الحبّ لدى الجمهور، إنّ كسر الإيهام، كميزة يتفوّق فيها المسرح درامياً على الشّاشة، هي عند التأمّل كسر للدّراما نفسها، لأنّ الدّراما "محاكاة" وعند تعطيل هذه المحاكاة - بدعوى أخذ موقف نقدي وخلق مسافة - تتعطّل الدّراما، لقد زال الجدار الرّابع، وبُني مكانه جدار فصل فنّي فولاذي اسمه : اللا اندماج، أي: فشل الشّرط الدّرامي، أي: اللا دراما.
إنّ كسر الدّراما قد يكون هو الجديد الجوهري الذي نزل بساحة المسرح منذ سوفوكليس، ما غير ذلك من إضاءة وديكور وتقنيّات صوت فهي من غير جوهر المسرح، الذي يُفترض أنّ ميزته في الحضور المباشر، وليس في اللمسات التّكنولوجيّة على هذا الحضور، أمّا الجديد على مستوى البناء، كتعديلات غوستاف فيرتاج على البناء الأرسطي، فذلك شأن "قصصي" وليس درامي، إنّه بالقراءة، وليس بالمشاهدة، يمكن تلمّسه، هذا البناء ماثل في الرّواية، كما في النصّ المسرحي.
ولكن ما هي خطورة تفشّي هذا الفنّ في سوريا على حساب السّينما؟ أكاديميّاً على الأقل هناك اعتناء أكثر بالمسرح، ومؤسساتياً: هناك مديريّة، مسرح قومي، شبيبة، طلائع، جامعي، وتجاري، وكلّها تعمل على هدي المعهد العالي كونه "الأكاديميّة" الماثلة للعيان بملامح تمنحها الأبّهة والفخامة، تلك ظاهرة وطنيّة ومشكلة كبيرة يُمكن اصطلاح توصيف لها: ظاهرة العَرَج الدّرامي الوطني، المقال التّالي سوف يتناولها، في تبيان خطورة، وكارثيّة، وفداحة إبقاء الجمهور في عصور ما قبل التّاريخ المرئي المحفوظ اللالغوي، طبعاً هو يُشاهد ذلك التاريخ المحفوظ فيلميّا، ولكن مع الفيلم المستورد، أما التلفزيون – الدراما التلفزيونيّة – فهي محكومة بذات المعايير الناجمة عن دراما الخشبة البائدة، أي: عن المسرح، كون المشتغلين فيها قد أتوا منه – للأسف – بقبس.