في موضوع القلب للفنانة فايدة كامل

في موضوع القلب للفنانة فايدة كامل   عادت الفنانة فايدة كامل من سوريا في الأسبوع الماضي، كانت وزارة الصحة هناك قد دعتها للغناء في حفلة يخصص دخلها للمصدورين فلبت الدعوة، وعاشت في سوريا أياماً وعادت تحمل أطيب الذكريات وأعطرها عن الشعب الشقيق في القطر الحبيب.   إنني أستطيع أن ألخص مقالي في عبارة واحدة هي: (إن في سوريا شعباً يحب مصر بجنون) فإذا أردتم التفاصيل فإليكم هي: في الساعة الأولى التي وصلنا فيها إلى دمشق خرج الموسيقيون ليطوفوا بالشوارع ويلتهموا بعض الأطباق السورية الشهية في محلات الحلوى المشهورة واستقلوا تراماً، فقد كان عندهم فسحة من الوقت، وكان الكمساري يقبل عليهم حين وقفت إحدى السيدات وقالت له: -         من فضلك أنا عاوزة أنزل هنا. قالتها بلهجة مصرية صميمة فنظر إليها الرجل بفرح وقال: -         انت مصرية؟ -         أيوه.. -         هنا ما فيش محطة.. لكن علشان خاطر جمال عبد الناصر تتعمل محطة. وسارع فنفخ في زمارته نفخة طويلة توقف بعدها الترام على الفور، ونزلت السيدة المصرية في غير محطة، والكمساري يشيعها بعبارات الحب لمصر وجمال وشعب مصر.   وبعد الظهيرة ركبت تاكسياً، وذهبت إلى السوق لأشتري بعض الحاجيات، وجعل سائق التاكسي ينظر في المرآة التي أمامه ثم قال لي: -         حضرتك فايدة كامل؟ -         أيوه.. -         مرحباً.. مرحباً بكل مصري.. وعندما غادرت التاكسي قدمت له أجره فرفض أن يأخذه، وأقسمت فلم يقبل، وإنما قال في استنكار وهو يبتعد: -         ليه.. بتفكري ما عندي وطنية.. بتريديني آخذ فلوس من مصرية. أما المحلات التي دخلتها، كلها على الإطلاق، فقد كانت تخفض لي أثمان السلع بشكل خيالي... كان التخفيض يصل في أحيان كثيرة إلى خمسين في المائة من الثمن.. وقد كانت لهجتي المصرية هي جواز المرور الذي يعطيني الحق في هذا التخفيض. وكنت أجد حرجاً كبيراً في أن آخذ كل شيء بهذه الأثمان التي كنت أعتقد أن فيها خسارة على أصحابها، فقررت أن أكتفي بشراء ما اشتريت حتى لا أعتبر نفسي استغللت كرم الشعب الشقيق! وأينما ذهبت في سوريا وجدت صورة جمال تحتل مكان الصدارة، في الحوانيت، وعلى السيارات، في البيوت، ودور الشركات.. في كل مكان تجد جمال على كل لسان. وحدث أن دعيت للغناء في الخطوط الأمامية، فلبيت الدعوة لأنني كنت في شوق إلى أن أرى كيف تعيش هذه الخطوط التي تواجه العدو، وذهبت فرأيت الحماس يطل من كل العيون، والثقة تشيع في كل النبرات، وجدت سياجاً منيعاً حول سوريا، وعلى مرمى البصر من السياج المنيع الذي تشرف عليه القيادة المشتركة كانت الدوريات الإسرائيلية تروح وتغدو. وطلبوا مني أغنيتين الأولى (دع سمائي)، والثانية (عاد السلام يا نيل)، وقد كان معي الكورس الذي ينشد مذهب الأغنية ولكن صوت الكورس ضاع وسط زئير الضباط والجنود الذين كانوا يرددون الأناشيد معي من أول كلمة إلى آخر كلمة... وعندما سمعوا: طلعت عليهم بور سعيد هزمتهم جعلوا يصفقون، ويقفزون في الهواء، واستعادوني مرات فقد كانت الكلمات تهزهم في أعماقهم وتعبئهم... تعبئ مشاعرهم تعبئة لا مثيل لها.. ووقفت بينهم بعد الغناء فرأيت ما أثار إعجابي كان كل واحد منهم يضع على قميصه – تحت سترته – وعلى موضع القلب تماماً صورة جمال عبد الناصر. لقد هزني هذا الشعور الرائع، فوقفت بينهم – بين الضباط – الذين كانوا يتحدثون إلي، وقفت وأنا لا أستطيع الكلام من فرط تأثري.   وسألني صحفي سوري: -         لماذا لم تظهر الأناشيد الحماسية في مصر إلا في هذه المعركة؟.. هل معنى هذا أن مصر لم تكن فيها وطنية من قبل؟ إن مصر ، وإلى جانبها دول العروبة، قد وقفت في المعركة وقفة الحر الأبي القوي.. إن كل مصري قد اشترك في المعركة.. أخي فوزي ذهب إلى الميدان، وزوج جارتي ذهب إلى الميدان وشقيق صديقتي ذهب إلى الميدان... كل مصر ساهمت في القتال... والفنانون أيضاً ساهموا.. ثم بلغنا القمة في كفاحنا في بور سعيد وبلغ الفنانون القمة فيما قدموا: المؤلف بلغ القمة فيما ألف، والملحن بلغ القمة فيما لحن.. والمطرب والمطربة بلغا القمة فيما أديا ولهذا خرجت أناشيد المعركة في القمة لتعبر تعبيراً صادقاً عن مصر وكفاح الأمة، وسمعت وأنا في سوريا قصة رائعة تناقلتها الصحف.. أوفدت الحكومة السورية بعثة إذاعية لتذيع صلاة الجمعة من بور سعيد في أول صلاة تقام فيها بعد الانسحاب.. وحدث لما دخلت سيارة البعثة إلى بور سعيد أن شاهدها الصبية وباعة الصحف وقرؤوا عليها عبارة (الإذاعة السورية) فجروا خلفها حتى اضطر السائق إلى أن يتوقف ونزل رئيس البعثة من السيارة، وفتح ظهرها وبدأ يتحدث إلى الصبية الذين التفوا حول السيارة وهم ينظرون إلى وجوه من فيها في شوق وإعجاب.. وسألهم صبي كان يحمل صحفاً في يده: -         انتو سوريين؟ فأجابه رئيس البعثة قائلاً: -         أيوه، احنا بنحبكم، بنحبكم قوي.. ما تتصورش قد ايه. -         أنا عارف.. ثم سكت مدير البعثة قليلاً واستطرد يقول: -         معاك جرايد؟ -         أيوه.. -         إديني الأهرام.. ومد مدير البعثة يده في جيبه ليخرج نقوداً، فصاح به بائع الصحف الصغير: -         حاتطلع فلوس والا إيه.. مش ممكن.. الجرايد اللي معايا كلها ببلاش علشان سوريا.. يستحيل آخد فلوس! وتركه وابتعد حتى لا يأخذ ثمن الصحيفة. الجميل في الأمر كله أن مدير البعثة، سجل هذه المحادثة كلها، وأذاعها أكثر من مرة من محطة سوريا، وكانت أصدق وأعمق وأبلغ تعبير عن الحب بين الشعبين الشقيقين في البلدين الحبيبين. مجلة الكواكب شباط 1957.