2012/07/04
جوان جان - البعث
لا يمكن للأحكام التي يطلقها المرء على الأشياء وهو في موقع الحياد أن تتماثل مع المواقف التي يطلقها وهو في قلب الحدث وطرف فيه، وقد تمضي سنوات طويلة قبل أن يكتشف الإنسان أنه تعرّض لخديعة كبرى خلال عدد كبير من السنوات ليبدأ بإعادة النظر في كثير من المصطلحات التي لم يتمكّن من معرفة حيثياتها وتفاصيلها إلا بعد أن اكتوى بنار مخترعيها والمتلاعبين بمعانيها .
وقد ترافقت الفورة الإعلامية التي شهدتها السنوات الأخيرة مع فوضى في المصطلحات وصلت حداً بات فيه من الصعب معرفة ما هو خطأ فيها وما هو صواب، لكن اليقين الذي يمكن أن يتوصل إليه الإنسان لا يكون إلا بعد تماس مباشر مع هذه المصطلحات وطرق استخدامها .
وإذا ألقينا نظرة عامة على بعض هذه المصطلحات نجد أن مصطلح "ناشط حقوقي" قد راج كثيراً في الفترة الأخيرة، وهذا المصطلح يستدعي إلى المخيّلة مباشرة صورة الشخص الذي أمضى حياته دفاعاً عن حقوق الإنسان في بلده وفي البلدان الأخرى، كما أنه يستدعي بالضرورة صورة ذاك الحقوقي الذي يحمل شهادة حقوقية تؤهّله لأن يمضي قدُماً في دفاعه عن المظلومين، بل وحتى الشهادة الحقوقية وحدها لن تكفي لأن الممارسة لها دورها الذي يجب ألا يُنظَر إليه بعين الانتقاص، وكثيراً ما كان المشاهد في السنوات الأخيرة يشاهد على شاشات التلفزيون أناساً يرتدون ملابس فاخرة ويتحدثون بدماثة وحماسة باعتبارهم ناشطين حقوقيين ولم يكن مشاهدنا يفكر ولو للحظة واحدة بأن هؤلاء قد يكونون على عكس الصورة التي يقدمون بها أنفسهم والتي تقدمهم بها هذه الفضائيات، وكيف سيخطر على البال أن هذا الناشط الحقوقي ما هو إلا محتال على مستوى دولي، استطاع أن يحتال على المئات من أبناء بلده وعلى الدولة التي لجأ إليها بعد افتضاح أمره بين أهله وجيرانه وأبناء مدينته؟ وكيف سيخطر على البال أن ناشطاً حقوقياً آخر لا يحمل حتى الشهادة الإعدادية وأنه أمضى نصف عمره منتقلاً من سجن إلى آخر بتهم مختلفة لا علاقة لواحدة منها بانخراطه في مؤسسات حقوقية؟ وكيف سيخطر على البال أن الناشط الحقوقي الثالث ليس أكثر من مدِّعٍ أثبت فشلاً في كل المهن التي حاول أن يمتهنها فلم يجد أمامه إلا أن يصبح نجماً حقوقياً على الشاشات وهو يرى أن الشاشات العربية بلغت مرحلة من السذاجة أصبحت فيها تصدّق أي شيء وأيّاً كان؟.. وقديماً كانوا يتندّرون على كثرة عدد المطربين في الإذاعات فيقولون إن الدولة تريد تطبيق شعار "كل مواطن مطرب" واليوم يبدو أن هذا الشعار انتقل إلى الفضائيات الإخبارية العربية التي أصبح شغلها الشاغل أن تطبّق شعار "كل أفّاق ناشط حقوقي" .
ومن مظاهر فوضى المصطلحات في الفضائيات أيضاً مصطلح "مدير مركز دراسات" حيث اكتشفنا فجأة ومنذ بداية العام أن الولايات المتحدة تملك من مدراء مراكز الدراسات العرب أكثر مما تملك من مراكز دراسات تابعة للحكومة الأمريكية بحد ذاتها، فعشرات، بل مئات مراكز الدراسات الوهمية ظهرت مؤخراً إلى حيز الوجود يديرها موظفون سابقون في الدول العربية هربوا من أوطانهم بما خفّ حمله وغلا ثمنه ليتحولوا بقدرة قادر إلى لاجئين سياسيين ومن ثم أصحاب مراكز للدراسات السياسية والاستراتيجية، بعضها ليس إلا واجهة لجمع المعلومات الاستخبارية عن أوطانهم التي يحلمون بالعودة إليها على ظهور طائرات ودبابات حلف الناتو .
قائمة هذه المصطلحات المغلوطة تطول في عُرف هذه الفضائيات، فالشهيد عندها قاتل مأجور، والمخرّب مدافع عن حقوق الشعب، والأغلبية نسبتها واحد من ألف وعلى هذا الواحد من ألف يجب تسليط الأضواء الكاشفة، والـ 99 في المئة من الشعب هم أزلام الحكّام والأنظمة لذلك ينبغي عدم الإنصات إليهم وإلا اعتُبِرت القناة شريكة لهم، والرأي الموضوعي هو الرأي الذي لا يخالف توجّه القناة، والرأي الموتور هو الذي يحاول أن يشكّل جملة مفيدة واحدة تستشعر القناة من أول حرفين فيها أنها لا تناسبها فتقطع الاتصال فوراً، أما حرية التعبير فهي حرية الفرد في كيل الشتائم لأبناء جلدته وتكفيرهم والدعوة إلى تصفيتهم .
هذه الفوضى في المصطلحات هي بعض ملامح الإعلام المعاصر الذي كان الكلّ يتأمّل أن يكون الرئة التي يتنفس من خلالها الناس، فإذا به وقد تحوّل إلى سيف مسلط باتجاه عقولهم وقلوبهم لا لكي يغسل العقول ويخترق القلوب –لا سمح الله- بل فقط لكي يستأصل العقول ويطعن القلوب التي لا تتجاوب مع دعواته الصادقة إلى تبادل وجهات النظر!!!؟