2013/05/29
زبيدة الإبراهيم – البعث
> لم تواكب بداياته، مطلع السبعينيات، افتتاح المعهد العالي للفنون المسرحية، بل سبق دفعة خريجيه الأولى بنحو عشر سنين، وسبقه جيل الستينيات من المؤسسين الكبار بنحو عشر سنين أيضاً، ولكن إصراره جعله يقف بصلابة بين الجيلين معاً: جيل التأسيس الأول وبينهم تأهلوا أكاديمياً في بعثات خارجية، وجيل الثمانينيات الذين وجدوا الفرصة متاحة لهم والطريق صار مفتوحاً أمامهم.
أما عباس الحاوي، وأبناء جيله... فكان عليهم أن يشقوا الدرب ويتحدوا الصعاب... ويقفوا بجدارة أمام الكبار المخضرمين، وقد قبلوا التحدي ... واستمروا بالتجربة، وغذوا الموهبة بالتثقيف والطموح بالعمل، وعباس ممن تواعوا بالتجربة، فكان في هذا ميزة إضافية رغم ما تكلفه من ثمن.
< وقوفك بين جيلين، جيل التأسيس، وجيل الستينيات وما قبلهما، وجيل التأهيل الأكاديمي، جيل الثمانينيات- هل شكل لك تحدياً من نوع ما، وكيف وجدت نفسك بينهم؟.
<< شكل لي تحدياً بالطبع، ومدني بكثير من الفائدة أيضاً، فقد انتسبت لنقابة الفنانين في عام واحد وسبعين، وكانت الطريقة الوحيدة هي التقدم لامتحان اختبار للقبول تقيمه النقابة بإشراف فنانين كبار لديهم الخبرة، وكان هذا أول التحدي، وحين يفوز الراغب بقبول انتسابه يبدأ التحدي الأكبر، وهو العمل مع هؤلاء الكبار الذين سبقونا بالخبرة والثقافة وإثبات الذات، لقد قبلت بعضوية متمرن بصفة ممثل، ولكن الكاميرا السينمائية جذبتني، فوجدتني أقف وراءها بشغف، كما لو أنني أمامها، وخلال وقت قياسي حصلت على صفة مونتير في النقابة أيضاً ثم حصلت على صفة ممثل أساسي، وأذكر باعتزاز أن من زملائي من الجيل نفسه الفنان عبد الهادي الصباغ وهاني السعدي والمرحوم نبيل خزام... وغيرهم وكلمة لابد منها، فإن جيل الكبار المؤسسين قدموا لنا كل شيء، وقد حصدنا ما زرعوا هم، هم من حفروا في الصخر، وكافحوا بصلابة وشراسة، وجئنا بعدهم لنسير على طريق معبد... لكننا بالوسائل المحدودة التي كانت متاحة لنا، كنا كمن يجر العربة عربة الحلم وعربة الأمل، وعربة الموهبة التي تحتاج لصقل ومران وكانت الفرص محدودة جداً.
وكل هذا لم يعد موجوداً حين جاء زملاؤنا من جيل الثمانينيات فوجدوا المعهد العالي الذي وفر عليهم نصف المشوار، ووجدوا الفرص الكثيرة، فقد تعددت أقنية التلفاز قبل أن تأتي الفضائيات في تسعينيات القرن الماضي، وتحدث ثورة حقيقية في عدد الفرص ومستوى الإنتاج، واستمراري أنا، وكل أبناء جيلي يشهد أننا جديرون بمواكبة أجيال المتعلمين الأكاديمين وأننا مستمرون في التحدي في مجال صارت المنافسة فيه مفتوحة، وعلى كل الصعد، ثم استفاد الجيل اللاحق لنا ما لم نكن نحلم به، ولكننا صقلنا التجربة واستفدنا من قسوة الظروف التي عشناها.
< كيف تعامل معكم المخرجون في توزيع الأدوار، وهل كان لكم حق اختيار أدواركم؟.
<< المخرج كان، ولايزال، هو من يوزع الأدوار، وحين يستقر رأيه على ممثل ما لدور يراه هو مناسباً له هو من يتصل به ويعرض عليه هذا الدور، وله أن يقبل أو يرفض، لأسباب مالية وموضوعية أو حتى لظرف يخصه، لكن اختيار الممثل نفسه للدور الذي يجده مناسباً له هو ترف لا يتمتع به أغلب الممثلين، وأعتقد أن اختيار الدور من قبل الممثل، إن أتيح له ذلك، له إيجابية كبرى لصالح الممثل والدور معاً، فالممثل الذي يختار أدواره بنفسه لا شك سيؤديها بحب ورغبة وكثير من الصدق أيضاً.
< تعددت مسارات تجربتك وتنوعت دروبك فيها، فأنت ممثل ومونتير ومصور وأخيراً مخرج، ما الذي استفدته من هذا التنوع وبم أضرك في الوقت نفسه؟.
<< أعتقد أنني أدركت، وبوقت مبكر أن لدي مشروعاً وأن التمثيل، وهو طاقتي الأساسية، هو حجر الزاوية في مشروعي، لكن وربما لأننا لم نتأهل أكاديمياً، كان لدي شغف بفهم مهنة التمثيل وكل ما يتصل بها، ولهذا لم أقاوم فكرة العمل خلف الكاميرا وسعدت بالعمل في المونتاج ، واستفدت كثيراً حين عملت مساعداً في الإخراج، وأشعر أنني وصلت لمهنة مخرج بعدما اجتزت كل المراحل الضرورية لذلك، الآن أستطيع أن أقول إن مشروعي هو أن أجد نفسي وأعرف كل إمكاناتي، وفيلمي الأول الذي أخرجته لحساب المؤسسة العامة للسينما وعنوانه (موت...حياة) ، هو إعلان لولادة مشروعي ولا أقول اكتماله.
أما بماذا أفادني ذلك، أفادني كثيراً من الناحية المادية، فقد كان ما اكتسبته من معرفة وخبرة على حساب ما أضعت من فرص كان يمكن أن توفر لي في حينها، كسباً مالياً كبيراً.
< ذكرت في أكثر من تصريح لك أن عباس الحاوي لم يأخذ فرصته المناسبة... هل فاتتك أدوار كنت تتمناها، وماذا أثرت فيك الأدوار التي أديتها؟.
<< بما أنني لم أكرس نفسي للتمثيل فقط، فمن الطبيعي أن تفوتني فرص كثيرة، وأن يكون ما أديته من أدوار أقل مما كنت أتمنى، لكنني مع ذلك لا أنكر أن الأدوار التي أديتها وضعتني في ذاكرة المشاهدين كممثل واعد للأدوار الأولى، أدوار النجومية، وهو نجاح كبير في اعتقادي ولا يحظى به كثيرون، وأعترف أن بعض الأدوار التي أديتها أرضت غروري أيضاً ووجدت فيها تعويضاً عما فاتني من أدوار، ومن المهم الاعتراف أن كل دور مهما كان صغيراً لابد أن يترك أثراً في حياة الفنان، بالقدر الذي يحدثه في ذاكرة الناس وربما أكثر، فكل دور هو تجربة بشكل أو بآخر.
< ابتعدت كثيراً عن المسرح، وبما أنك جمعت بين فني المسرح والدراما التلفزيونية.. ما الذي وجدته مشتركاً بينهما ، ولماذا برأيك يتراجع المسرح الآن؟.
<< مثلي مثل الكثير من زملائي الفنانين لم نكرس الكثير من تجربتنا للعمل في المسرح، وقلائل جداً هم من صمدوا، ولم يشدهم التلفزيون بإغراءاته ويبعدهم عن المسرح، أنا من الذين أبعدهم التلفزيون عن المسرح، وهي حالة عامة زاد فيها أن التلفزيون حقق قفزات كبيرة في أقل من عقدين من الزمن، والمسرح مع ما حققه من تقدم إلا بنظر الكثيرين يبدو في حالة تراجع وانكماش، ولا أستطيع تلخيص المشترك والمختلف بين فني المسرح (دراما الخشبة)، وفن دراما التلفزيون، فهما فنان مستقلان والفوارق بينهما كبيرة، وأكثر ما هو واضح من خلاف هو في مسألة المشاهد أو المتلقي، فللمسرح جمهور محدود ومؤقت، والتلفزيون صار يطل على عشرات ومئات الملايين من المشاهدين ، وهذا ما يغري دوائر الإنتاج الخاصة والعامة، بتشجيع الإنتاج الدرامي التلفزيوني، وتوفير كل الدعم له، وحين يتاح للمسرح من يدعمه، فإن إمكانات نهضة متوفرة بما لدينا من ممثلين وكتاب ومخرجين، وكلهم لديهم الخبرة والموهبة ولكنها مسألة الفرص أولاً وأخيراً.
< حققت الدراما التلفزيونية السورية نجاحاً لافتاً في العقد الذي مضى، وقبله بقليل بما تعلل هذا النجاح وكيف يمكن أن نحافظ عليه؟.
<< أحد أسباب هذا النجاح وأهمها هو توفر الفرص الكثيرة، وتدفق أموال الإنتاج على الشركات والمخرجين والكتاب وقدرتهم على جذب الممثلين من كل الأجيال وباقي الأسباب معروفة ولا حاجة لتعدادها.
فقد صارت لدينا خبرات بمستوى رفيع جداً في الإخراج والكتابة، وفي التمثيل من كل الأجيال، ولا ننسى أن الموضوعات التي عالجتها هذه الدراما هي مهمة أيضاً، وأنا لست خائفاً على مستقبل الدراما التلفزيونية السورية، فهناك من يعملون بدأب على تطويرها ورفدها بالدماء الجديدة في كل جوانب العملية الفنية، وأظن أن ضمانة استمرارها متميزة موجودة بشكل كاف ومضمون.
< تميز مسلسل الطير الذي شاركت به، بطابعه الاجتماعي ووقوفه عند مشكلة تكاد تكون فردية، وقد حقق نجاحاً لافتاً، فلماذا لم تكرر هذه التجربة؟.
<< نعم لاقى مسلسل الطير نجاحاً كبيراً واستمرت عروضه على امتداد جيل كامل ، وحتى الآن لا يزال الكثيرون يعتبرونه متميزاً، وبالطبع نجح العمل عندما توفرت له عناصر النجاح: الفكرة البسيطة، التشويق المناسب، الإيقاع السلس، وكان الدور الأساسي للنص للمؤلف نبيل المغربي، وبالمناسبة هو من جنودنا البواسل في حرب تشرين التحريرية، وقد خرج منها بوسام كان يعتز به على الدوام، ولكن اصابته في الحرب التي خلفت له إعاقة جسدية، ولكنها منحته ثقة كبيرة بنفسه وحررت مواهبه التي كانت مكبوتة، وللأسف أن هذا الكاتب غادرنا سريعاً حتى إنه لم ير مسلسله يعرض للمرة الثانية، وهو صاحب المسلسل نفسه القيد وكلا العملين يبقيان ذكرى طيبة من هذا المبدع الذي غادرنا باكراً.
< نقف معك أخيراً في آخر محطاتك في تجربتك الفنية العريضة، الأعمال الإذاعية ، هل حققت لك شيئاً إضافياً؟.
<< بصدق أقول مع تنوع تجربتي الفنية إلا أن الأعمال الإذاعية وفرت لي ما لم توفره الأعمال الأخرى، وأعتقد أن الأعمال الإذاعية أمتع من غيرها بكثير، لأن الممثل يكون فعلاً حراً ومتحرراً من قيود المسرح ومواجهة الجمهور أو السينما وصخب الآلات من حوله أو التلفزيون والخروج إلى الطبيعة، والاختلاط المفرط بالناس، في الإذاعة لا يحتاج الممثل حتى إلى الديكور، بل إنه غير مضطر لحفظ دوره، يمكنه أن يقرأه مباشرة، وهو يحتاج فقط لهدوء الأعصاب، وأن يكون صوته في أحسن حالاته، إنه بحاجة لإحساسه هو، ولن تفيد هنا المؤثرات الصوتية أو الإضاءة أو الديكور أو غيرها، إنه بمواجهة نفسه فقط في العمل الإذاعي، ليس للممثل سوى إيقاعه، ودائماً عندما أخرج من استديو الإذاعة أكون فرحاً بما أديته، ومازالت أحب هذا العمل وأحرص أن أكون موجوداً فيه دائماً، فالإذاعة تمتعني مشتغلاً بها ومستمعاً إليها.