2013/05/29
مارلين سلوم – دار الخليج
الأراجوز يبكي . دموعه ترتسم ضحكات على الشاشة فيذرفها المشاهدون . تتسمر أمام الشاشة تراقبه، يحيرك أمره، أهو يضحك فيضحكك، أم يبكي حسرة فيبكيك ألماً؟
هذا الذي يطلقون عليه “أراجوز” من باب “التحقير” والاستهزاء، عرف كيف يمتهن الإعلام ويحترف الضحك، فأوجع المسؤولين وكل خصومه، وأبهر الناس، حتى وصل إلى خارج حدود بلده، بل حلّق فوق كل الحدود، وحقق أكثر مما كان يتوقع .
طبيب وجراح قلب وأستاذ جامعي، لم يحسب أن سخريته من الأوضاع أيام الثورة ومقاطع الفيديو التي كان يصورها على اليوتيوب من بيته، ستحمله إلى احتراف الإعلام . لكنه وصل بفضل ذكائه ومجهوده وأفكاره الخلاقة التي جعلت من برنامجه “البرنامج” الأكثر مشاهدة، وأغلبية المشاهدين العرب ينتظرون بشوق مساء الجمعة ليشاهدوه على “سي بي سي” .
باسم يوسف لم يعد طبيباً، وكذلك لم يعد مقدم برنامج مصري كوميدي ساخر . إنه حالة إعلامية، تنتشر بسرعة خارقة، تحصد المعجبين العرب أينما كانوا حتى في بلاد الاغتراب . وبفضل محاولة زجه في السجن وإسكات صوته عن طريق القانون والمحاكم، وصلت حالة “باسم يوسف” إلى أمريكا، ويمكنك القول إلى معظم دول العالم .
حين درس الطب وتخصص في “القلب”، لم يكن يعلم أنه سيصل إلى قلوب الناس بهذه السرعة، ولم يتخيل أنه سيعالج المأساة بالضحك فيفرج الهم عن قلوب الملايين . تحول إلى حالة خاصة، لم يقلد من سبقوه وأصحاب التخصص والخبرة، وإن كان استوحى أسلوب برنامجه من الأمريكي جون ستيوارت الذي اشتهر بسخريته اللاذعة من السياسة وأهلها .
خط جديد رسمه في الإعلام العربي، فأقبل عليه الناس رغم كل ما يقوم به خصومه وبعض من يقوم بانتقادهم من محاولات لتشويه صورته وسمعته . ولعل آخر محاولة لإخافته وإسكات صوته عبر إحضاره إلى المحكمة بتهمة السب وازدراء الدين، وإلزامه بدفع كفالة مالية، زادته عناداً وصلابة، ودفعته إلى التعمق أكثر في نبش الجراح والتوقف عند حقائق .
الكل كان ينتظر الحلقة الأخيرة من “البرنامج” ليرى كيف سيرد باسم على التهمة ومثوله أمام القضاء، خصوصاً أن الإعلام الغربي تناول الموضوع باعتباره حدثاً خطراً وقضية “قمع للحريات”، كما استضافته المذيعة الأشهر عالمياً كريستيان أمانبور على “سي إن إن”، وتحوّلت قضيته إلى مادة خصبة للمذيع الساخر جون ستيوارت الذي خصص حلقة من برنامجه لباسم والمقارنة بين تعامل السياسيين الأمريكيين مع حرية الرأي والإعلام، وردود الفعل على برنامجه، وفي المقابل ردود فعل السلطة في مصر أمام برنامج يسخر من بعض المواقف .
وجاء رد “البرنامج” أقوى من المتوقع، لأن باسم كان أكثر جدية هذه المرة، وكعادته سبح عكس التيار، وجعل من الحلقة “أوبريت” من النقد تكشف الحقائق، وتلمس الأوجاع فتُبكي الناس . كان يضحك، ويُضحك الجمهور الحاضر في الاستوديو، وكل الجالسين أمام شاشاتهم، وهم أقرب إلى البكاء .
ما سر هذه الشعبية؟ ليس في الأمر سر ولا سحر، وإنما هي شعبية وجماهيرية جاءت بعد أن أثبت باسم مدى ذكائه وسعة اطلاعه وثقافته وحرصه على إتقان دوره، وحبه للتميز في تقديم البرامج . أخذ عن جون ستيوارت فكرة البرنامج، لكنه عرف كيف يصبغه بنكهة عربية مميزة، وعرف كيف يحاكي الشارع ويتماشى مع الأحداث بلا مجاملة لأحد وبلا خوف . طبعاً هناك بعض الملاحظات على إحدى الحلقات التي علت فيها لغة الإيحاءات، ونتمنى ألا يعود إليها باسم في حلقاته اللاحقة، لاسيما بعدما أثبت أنه قادر على الارتقاء ببرنامجه إلى محاكاة الواقع بأسلوبه الساخر والنقدي نفسه، ولكن بلغة راقية وعمق يوجع ويفيد .
نقولها مجدداً، ميزة “البرنامج” أنه عين المشاهد، يلتقط ما نغفل عنه، فيقدم لنا الحقيقة من أكثر من زاوية . والأجمل أنه يقدم الإثباتات والبراهين بالأدلة المصورة ومقاطع فيديو لا يمكن لأي كان حتى أصحاب الشأن إنكارها أو التملص منها، تماماً كما فعل على سبيل المثال لا الحصر، في إحدى حلقاته عندما قدم لنا أدلة على تلوّن مذيعين وإعلاميين، يعيدون اليوم على مسامع السلطة كلاماً معسولاً لا يختلف عما قالوه أيام النظام السابق، ثم هاجموا الثورة وقت اندلاعها، ليرتدوا قناعها بعد تنحي الرئيس حسني مبارك .
باسم يوسف هو الدمعة حين تضحك من شدة الألم، أو الضحكة الباكية في قرارة نفسها وفي قلبها . وهو الابتسامة التي يحتاجها الناس كي يتنفسوا وينفسوا بعضاً من غضبهم وأوجاعهم .