2013/05/29
علاء الدين العالم – تشرين
لطالما كانت اللغة العربية هي التحدي الأول أمام أي عمل درامي تلفزيوني تاريخي، كيف لا وهي العامل الرئيس لنجاح العمل أو سقوطه، إذ تتحول اللغة في المسلسل التاريخي إلى رهانٍ على صناعِ العملِ كسبه حتى يضمنوا نجاح عملهم،
ولعل الكثير من هذه الأعمال خسرت هذا الرهان لأسباب عدة، منها الأخطاء اللغوية والنحوية التي تأتي على لسان الممثلين، كذلك افتقاد ألفاظ الحوار للجزالة والفصاحة، ناهيك عن عجز الكتاب في بعض الأحيان عن مقاربة البلاغة العربية الأصيلة بسبك جملة رصينة بليغة ذات ألفاظ جزلة نابعة من الزمن الذي يصوره العمل التاريخي. يضاف إلى هذه الأخطاء الجلية، سهو الكاتب عن انتقاء ألفاظ وحشية لم تعد تستخدم في زمننا اليوم، وتوظيف هذه الألفاظ في الحوار حتى يصبغ على عمله التاريخي المزيد من مقاربة ذاك الزمن، أيضا يغفل أغلب كتاب هذا النوع من الدراما التلفزيونية، اختلاف لهجات القبائل، فنرى أن ابن تميم يتكلم باللهجة ذاتها التي ينطق بها ابن تغلب، كل هذه الأخطاء وغيرها شكّلت تحدياً أمام كاتب مسلسل «عمر» الدكتور وليد سيف، لاسيما والتكلفة الإنتاجية الهائلة يضاف إليها نسبة المشاهدة العالية التي توقعها كثيرون لهذا العمل الجلل الذي يتناول سيرة أحد الصحابة، كل هذا جعل رهان اللغة في مسلسل عمر أكبر من بقية المسلسلات التاريخية. بعد أن وصل مسلسل «عمر» إلى منتصفه، تبيّن أن الدكتور وليد سيف لم يكسب رهان اللغة وحسب، بل استطاع أن يكوّن بنية لغوية متماسكة جزلة، تخلو من ثغرات الكتاب السالفة الذكر، بنية لغوية تماشت مع التفوق البصري للعمل ومع التكلفة الإنتاجية العالية وبقية العناصر التي ارتقت بمسلسل «عمر»، حيث استطاع سيف تكوين هذه البنية من خلال التفاته إلى عناصر عدة جعلت من اللغة حاملاً رئيسياً لنجاح مسلسل «عمر».
استخدام ألفاظ وحشية كانت تستخدم قديماً
قد نوهت في المقدمة أن عدم استخدام الكتّاب لألفاظ وحشية هو من الأخطاء التي تُسقط لغة العمل التاريخي، وذلك ما تلافاه سيف في مسلسل «عمر» إذ نجد في أكثر من موضع في العمل ألفاظاً وحشية تأتي على ألسنة الممثلين، ألفاظاً قل استخدامها في وقتنا الحالي، ومثال ذلك قول أحد المسلمين عندما أتى بني قريظة يستفسر عما جرى بينهم وبين المشركين، إذ يقول: «ما خبر نُمي إلينا..» إن لفظة «نمي» هي لفظة وحشية بمعناها المقصود، لم تعد تستخدم اليوم، وهي تعني: «نمى الحديث أي رفعه» ودليل استخدام هذه الكلمة في زمن الرسول قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً ونمى خيراً». ومن استخدام ألفاظ غريبة وحشية ما جاء على لسان أحد سادة قريش مقرعاً «وحشي» لدخوله نادي قريش ومجلسهم إذ يقول: «ما يقعدك؟ ألا ترانا مجتمعين في نادينا نخوض فيما يشغل قومنا» وهنا استخدم سيف لفظة «نخوض» وهي الأخرى لفظة سقطت من معجمنا اليومي، ومعناها «التلبس بالأمر والتصرف فيه (...) والخوض من الكلام» وجاءت كلمة «يخوضون» في قوله تعالى: «وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا». إن إدراج الكاتب سيف لهذه الألفاظ الغريبة وغيرها في حوارات الشخصيات أضفت على العمل طابع المصداقية ومقاربة واقع الزمن الذي يصوره العمل.
الدعاء بـ«لا» و «تالله»
«إن دخلت «لا» على الفعل الماضي ولم تتكرر أفادت الدعاء» هذه إحدى قواعد «لا» في كتاب سيبويه، إذ تفيد لا الدعاء في حال دخولها على الماضي من دون تكرارها، إن استخدام لا للدعاء أصبح نادرا في لغتنا المحكية اليوم، لكنها كانت تستخدم بكثرة لتفيد الدعاء ولاسيما للتحبب ومنه قول جرير «لا بارك الله في الدنيا....»، يتجلى استخدام «لا» لتفيد الدعاء في مسلسل «عمر» عندما تقول إحدى النساء لخالد بن الوليد تثني عليه حيلته في كسب معركة أحد، تقول: «لا شلت يمينك يابن الوليد فقد ثأرت لنا». وما يبين إدراك سيف أسرار العربية وخوضه بها، استخدامه «تا» في القسم، وهي حرف موطئ للقسم مثله مثل الواو في «والله»، إن هذا الاستخدام لـ«تالله» ظهر في مسلسل عمر في أكثر من مكان وموضع وعلى أكثر من لسان، منها قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: «تالله انت الصديق»، إن هذه الاستخدامات النحوية وغيرها دليل قاطع على أن الكاتب انتقى مقالاً يراعي المقام.
البلاغة في الإيجاز
استطاع الكاتب وليد سيف أن يصقل هذه البنية اللغوية المتماسكة في «عمر»، بتراكيب مسبوكة بليغة ذات ألفاظ جزلة متماسكة لا ضعف فيها ولا تنافر، إضافة إلى اعتماده الإيجاز عملاً بمقولة العرب الشهيرة «البلاغة في الإيجاز»، إذ نجد أن أغلب التراكيب التي تأتي على ألسنة الشخصيات، تراكيب متينة مسبوكة بإتقان تستمد بلاغتها من إيجاز ناطقها بالكلام، منها على سبيل المثال لا الحصر، قول أحد المشركين لكبير بني قريظة عندما أغلق الأبواب في وجهه، إذ قال: «ما أغلقت دوني إلا عن طعامك أن آكل منه»، تأتي البلاغة في هذا التركيب من إيجاز القائل بالقول ومن خلال الحذف الذي يساعد في بلاغة الكلام والمتكلم، إذ نجد أنه حذف كلمة «أبوابك» عندما قال: «أغلقت دوني» وذلك لاتضاح الكلمة من سياق الكلام، كذلك استثناء الإغلاق بخوف المغِلق من أن يأكل الضيف من زاده، حفّز سيد بني قريظة على فتح الأبواب أمام السائل خشية اتهامه بالبخل وهذا ليس من شيم العرب، والأمثلة على البلاغة في اللغة المستخدمة في «عمر» تطول حتى يعجز الباحث عن إحصائها.
التوكيد والأحرف الزائدة
أخذ بعض المستشرقين على اللغة العربية وجود الكثير من الأحرف الزائدة في كلام العرب، لكنهم لم يعرفوا أن الأحرف الزائدة لم تأتِ هباء بل تفيد التوكيد، ولعل سيف يعلم علم اليقين ما هو فعل المؤكدات في الجملة ولماذا لا ينفك العرب عن استخدامها في قولهم لتوكيد كلامهم والبرهان عليه، تكاد لا تخلو جملة في مسلسل «عمر» من التوكيد بمؤكد أو أكثر، ومن هذا قول سيد بني قريظة مخاطباً أحد سادة قريش: «وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقدٍ ما بيني وبينه».. ان استخدام سيف لمؤكدين في هذه الجملة «قد حرف التحقيق، والباء الزائدة في خبر ليس» أكد على عزم القائل على مقاله وتوكيده له. وفي السياق نفسه نسمع جملاً في العمل أكدها سيف بأكثر من مؤكدين منها قول أحد المسلمين: «والله إني لقاتلهم»، إن تضمين سيف التوكيد في الجمل في العمل يدل على علمه في العربية وإدراكه فعل التوكيد في الكلام عند العرب.
إن هذه العناصر وغيرها ساعدت سيف على تصميم بنية لغوية متماسكة خالية من الثغرات، وكأن كاتب هذه الكلمات من العرب الأقحاح، وهذا ما ساعد المشاهد على عدم التفريق بين الكلام الموثّق للشخصيات الذي وصلنا من أمّات الكتب، وبين الكلام الذي خطه الكاتب وليد سيف كحوار بين الشخصيات، وهكذا كانت اللغة العربية المتقنة في «عمر» عاملاً رئيسياً في نجاح هذا العمل.