2013/05/29
إبراهيم العريس - الحياة
على رغم مئات ملايين الدولارات التي حققها عدد لا بأس به من الأفلام في عام 2012 المنصرم، وعلى رغم تعدّد المهرجانات السينمائية وتنوعها، يجمع المحللون والمراقبون على ان وضع السينما كان صعباً، وعلى الأقل في مناطق عدة من العالم. صحيح اننا لا نزال بعيدين كثيراً – بل ربما ابعد من اي وقت مضى – من تحقّق تلك التوقعات التي تتحدث عن موت السينما، لكننا نعيش في زمن يتعين فيه على هذه الأخيرة ان تمعن في البحث عن سبل جديدة تحفظ لها حضورها في العالم، وليس فقط كأفلام وإنتاجات ابداعية او طبعاً تجارية وترفيهية، فهذا الحضور من جانبه، مضمون حتى ازمان غير منظورة، وانما ايضاً كصالات ولعبة فرجة تتيحان لهذا الفن الذي خلق جماعياً واجتماعياً بامتياز ألا يفقد قدرته على جمع الناس من حوله. وفي هذا الإطار بالتحديد يصح الحديث عن عام انتقالي – بل حتى اعوام انتقالية صعبة – يعيشها فن القرن العشرين الذي لا يزال واعداً بأن يكون فن العصور التالية... وضمن إطار ذلك البحث المضني عن تلك الأساليب، ها هي السينما تزداد تنوعاً في اساليبها ومواضيعها وتقنياتها في شكل لا يفوته ان يدهش حتى اكثر المتشائمين بمستقبلها تشاؤماً. ففي هذا الإطار، ها هي تقنيات الرقم والتجسّد ماثلة. وها هو ماثل التجديد المدهش في المواضيع والأفكار وما الى ذلك، بحيث يمكننا ان نقول ان ما من مرحلة سابقة من مراحل تاريخ تطوّر الفن السابع عرفت، على صعيد يدمج الشكل بالمضمون، ما يعرفه هذا الفن في ازماننا هذه، وبوتيرة تزداد سرعة. ومن هنا لم يكن صدفة ان يأتي مبدع مثل الإنكليزي سام مندس ليخوض تحدي التجديد في عوالم جيمس بوند، او ان يحاول بيتر جاكسون ان يتجاوز ما كان أنتجه في «سادة الخاتم»، في عمله المسلسل الجديد «ذى هوبيت» البادئ عروضه لتوّه... وفي مقابل اتساع المساحات والآفاق، ليس صدفة ان يطور مخرج من طينة ميكائيل هانيكي تعامله مع المكان الضيق المغلق ليطرح تساؤلات الموت والشيخوخة، ويماثله فعلاً زميل ايطالي مخضرم هو برناردو برتولوتشي طارحاً هو تساؤلات الأخوّة والمراهقة والصداقة في «انا وأنت». وكذلك ليس من الصدفة في مكان ان تصيب تجديدات مبدع كالمكسيكي اينياريتو على صعيد تثوير الشكل السينمائي، بعدواها مبدعين من شتى انحاء العالم باحثين عن حلول جديدة – في كتابة السيناريو وغيره – تعيد الى السينما انفصالها الخلاق عن «عادية» العمل التلفزيوني... والحقيقة ان هذا كله وغيره، يخلق اليوم ذلك الأمل المتجدد لفن سينمائي لا يتوقف عن العثور على حلول خلاقة لكل «مأزق» يقع فيه... فيحوّل الأمل الى قفزة جديدة في تاريخ فن من قدره ان يعيش دائماً على القفزات في لعبة استجابة متواصلة لتحديات دائمة.
انطلاقاً من هذا الواقع، إذاً، آثرنا في جردة هذا العام ان نتوقف عند عشرة أفلام لا نعتبرها، جمالياً ومن ناحية السلّم القيمي، بالضرورة «أفضل» ما حقق هذا العام، بل نعتبرها الأفلام التي كانت طوال العام، الأكثر استجابة الى التحديات المطروحة على الفن الذي تنتمي اليه. اخترنا بعضها من بين الأفضل طبعاً، لكننا اخترنا بعضها الآخر من بين الأكثر تجديداً في الشكل والمضمون أو في واحد منهما كما من بين الأكثر قدرة على الريادة الجديدة في مجال فتح الدروب واسعة امام استمرار الفن السينمائي في التألق والانبعاث المتجدد. وحتى وإن كنا في اختياراتنا هنا لم نتمسك كثيراً بتراتبية تقويمية، فإن الترتيب الذي توخيناه لها لا يفوته على اية حال ان يحمل تفضيلات ما.
داخل الأماكن وخارجها
> في المقام الأول، لدينا فيلم النمسوي مايكل هانيكي الجديد «حب» الذي على رغم غوصه في عالم الشيخوخة والمرض والموت وتفتت الجسد، عرف كيف يكون نشيداً للحب والحياة على رغم سيناريو لم يفارق شقة زوجين عجوزين، عملياً، مركزاً على تعاملهما معاً، ثم تعامل الزوج وحده مع مرض الزوجة واحتضارها. استفاد هذا الفيلم الاستثنائي من أداء رائع لممثلين فرنسيين استثنائيين كان الفيلم نفسه هو من اعادهما الى الشاشة بعد غياب طويل: جان لوي ترنتينيان وإيمانويل ريفا. بدا واضحاً ان المخرج ما كان في إمكانه ان يحقق فيلمه هذا لولا اقناعهما بالعمل معه. بعد عرضه الأول في مهرجان «كان» ربيع هذا العام، نال الفيلم «السعفة الذهبية» وسط تصفيق مهيب. لكن هذا الإجماع لم يكن من نصيبه تماماً حين عرض في الصالات. لقد قسم «حب» الجمهور العريض... لكن هذا كان طبيعياً. ففيلم مثله تبدو الاستجابة العامة له في غاية الصعوبة، انه من الأفلام التي تفرض إجماعاً من حوله على المدى الطويل... لكنه كذلك/ وهذا اهم بالنسبة الينا، من الأفلام التي تفتح آفاقاً واسعة امام تفجّر المواضيع في الفن السابع.
> ربما يمكن قول الشيء نفسه عن فيلم «احتضار» آخر عرض بدوره في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، لكنه وإن نال اجماعاً نقدياً وجماهيرياً، لم يلق الاستجابة نفسها من محكمي المهرجان، فخرج من دون جوائز... ولكن هل يهمّ هذا كثيراً؟ الفيلم الذي نتحدث عنه هنا هو «كوزموبوليس» الذي حققه دافيد كروننبرغ عن رواية ذائعة الصيت للكاتب النيويوركي دون ديليلو والتي تحمل العنوان نفسه. من ناحية مبدئية نحن هنا كذلك في مكان مغلق لكنه منفتح في انغلاقه على العالم الخارجي، على شوارع نيويورك... فالمكان هو داخل سيارة ليموزين ضخمة وفخمة يجول صاحبها بها في نيويورك سعياً في يوم مزدحم – بسبب زيارة مرتقبة يقوم بها رئيس البلاد الى المدينة وتتخذ فيها احتياطات امنية مذهلة تحسباً لمحاولة اغتياله -، وصاحب السيارة ليس بالطبع رئيس البلاد بل هو واحد من اولئك الفتية الذهبيين الذين حققوا المليارات خلال ازمان قياسية في قصرها، لمجرد إتقانهم اللعبة الرأسمالية ومناورات البورصة وحياة وول ستريت. بالكاد يقترب بطل الفيلم هنا من الثلاثين وهو بالكاد يعرف كيف يعيش. كل ما يفعله خلال يومه هو ان يرصد حركة البورصة وصعود الأسهم وهبوطها وتقلب اسعار العملات الرئيسة. واليوم الذي نرصده خلاله في الفيلم هو يوم «عادي» من حياته حتى وإن كان قد قرر ان يفعل فيه شيئاً غير عادي مثل قص شعره لدى حلاق قديم، حتى وإن كان اليوم سينتهي نهاية غير عادية: بالموت والإفلاس على سبيل المثال. كل شيء يدور هنا داخل السيارة وسط الشراب والمكالمات الهاتفية والعلاقات العابرة. أما بطء حركة السيارة بسبب الازدحام، فإنه يسمح للثري الشاب ان يلتقي زوجته بين الحين والآخر، ويستدعي طبيبه لإجراء فحوص روتينية ويشارك في المزادات ويراقب انهيار ثروته. فيلم شديد القسوة «كوزموبوليس» وشديد الحيوية. وهو تمكن من ان يكون سينمائياً الى ابعد الحدود على رغم انغلاق المكان ومحدودية الزمان فيه.
> سيارة ليموزين ضخمة وفخمة هي الأخرى وتكاد تشبه السيارة السابقة لوناً وأناقة... تلك التي تقوم بالدور الرئيس، أي ايضاً دور المكان المغلق، في الفيلم الفرنسي «عربات مقدسة» للمخرج ليوس كاراس، وهو مخرج نادر الحضور على الشاشة، لكنه معروف منذ اكثر من ربع قرن بأنه يحقق أفلاماً تعرف كيف تثير ضجة وتجدد – في طريقها – في الفن السينمائي، وليس على الصعيد الفرنسي وحده. «عربات مقدسة» يشبه فيلم كروننبرغ بكونه ايضاً يدور في يوم واحد وداخل السيارة. غير ان الشخصية المحورية هنا، إذاً كانت مثل شخصية «كوزموبوليس» تقوم بلقاءات عدة طوال اليوم، فإن لقاءاتها تتم غالباً خارج السيارة. فهذه هنا هي بالأحرى وسيلة نقل وربما ايضاً يمكن اعتبارها «غرفة» يحضّر الممثل فيها ثيابه وزينته. ذلك أن شخصية «عربات مقدسة» هو اقرب الى ان يكون ممثلاً وهو طوال الفيلم وفي مقاطعه المتعددة يعيش حيوات الكثير من الشخصيات التي يبدو بعضها وكأنه استعادة لأدوار لعبها الممثل نفسه في افلام سابقة للمخرج ذاته، ومن هنا يبدو الفيلم الى حد كبير اشبه بأن يكون انطولوجيا لسينما كاراس... غير انه في الحقيقة اكثر من هذا. هو فيلم عن الهوية/الهويات وعن الوجود وجدواه، كما عن «الحقيقة» في المعنى الذي كان يتناوله الكاتب الإيطالي بيرانديللو في مسرحه ورواياته. وهو قبل هذا وبعده كله فيلم عن السينما وفيلم عن الحياة... وهذا كله يجعل منه واحداً من تلك الأفلام التي تعرف كيف تقلب نوعاً فنياً رأساً على عقب فاتحة له آفاقاً غير متوقعة.
الإنسان يواجه الوحش
> لا يمكن طبعاً ان نقول كلاماً مثل هذا عن الفيلم الجديد الذي جعل محوره العميل البريطاني الشهير جيمس بوند، ولكن هذه المرة ومن جديد في سيناريو لم يقتبس عن اي عمل ادبي كتبه مبتدع الشخصية ايان فليمنغ. ومع هذا حقق الفيلم في الذكرى الستين لولادة الشخصية ادبياً وفي الذكرى الخمسين لولادتها سينمائياً. واذا كانت قد جرت العادة على عدم «إقحام» اي فيلم سابق من «بطولة» جيمس بوند في لوائح نقاد العالم حول افضل افلام السنة، اكتفاء بوضع معظم افلامه السابقة في لوائح الأفلام الأكثر ربحاً وإقبالاً، فإن الحال تختلف هذه المرة، لأن «سكايفول» – وهو عنوان الفيلم – حقق «معجزة صغيرة» تمثلت في ادخال العميل الأسطوري الى ملكوت السينما الجادة التي يحتفل بها النقاد، في ما يشبه الإجماع، بل تسمّى منذ الآن لجائزة اوسكار وأكثر. والحال ان أحداً لن يرى غرابة في الأمر إن طالعه اسم المخرج: سام مندس. فمنتجو بوند الجديد هذا اختاروا هذه المرة مخرجاً اوسكارياً ومبدعاً سينمائياً حقيقياً، في رصيده افلام كبيرة مثل «جمال اميركي» و «طريق الضياع» وقد عقدوا العزم على اخراج بطلهم من عالم المغامرات الخالصة والخدع التقنية المبتذلة والانتصارات المزيفة، ليضعوه في مهب سينما حقيقية. وقد ساعدهم في هذا سيناريو كتب بقوة ليضحي اشبه باستعادة لأكثر لحظات البوندات السابقة تألقاً ودراميّة، كما ساعدهم حضور ممثل قدير – دانيال كريغ – ليجسد الدور في شكل لا سابق له، متفوقاً، فنياً على الأقل، على جيمس بوند الأصلي والأسطوري: شون كونري.
> التفوق، ولكن على النفس هذه المرة، ومن الناحية التقنية الخالصة على الأقل، يلوح ايضاً في عودة المخرج بيتر جاكسون الى الكاتب تولكاين. فهو بعد مرور اكثر من عقد على تحقيقة أول ثلاثــــية «سادة الخاتم» متبعاً اياها بجزءين تاليـــين، عن الرواية الأشهر لتولكاين، ها هو يفاجئ محبي هذا الــــنوع من سينما المــــغامرات الأسطورة بالعمل الجديد المقتــبس عن الكـــاتب نفسه... إذ عند نهاية العام بدأت عروض فيلم «ذى هوبيت» وهو الجزء الأول من ثــــلاثية جدية مقتبسة عن الرواية الحاملة الإسم نفسه والتي كان تولكاين اصدرها قبل «سادة الخاتم». من ناحية مبدئية، قد لا يكون ثمة اختلاف كبير في الموضوع وحتى في الشكل بين الثلاثية الجديدة وتلك السابقة، بل إن كثـــراً قد يفضلون أجواء «سادة الخاتم» الأســـطورية والغرائبية، على اجواء «ذى هوبيت» الخرافية التي تبدو اشبه بلعب الأطفال. لكن المسألة ليست هنا، المسألة هـــي في ان السنوات الفاصلة بين تحقيق العملين احدثت في التقدم التقني ومجال الاشتغال الرقمي على الصورة، واشتغال الغرافيك على بناء الديكورات والشخصيات، وتطور فنون الماكياج... الى آخره قفزات نوعية، ما جعلنا في هذا الفيلم الجديد المصوّر والمشاهد بتقنية الأبعاد الثلاثة، ننسى الموضوع تماماً – وهو هنا كذلك بحث خلاصي تقوم به مجموعة من الشخصيات العجيبة – لنغرق في لعبة الإبهار الشكلي ونضيع بين جبال تتصارع ووحوش تطارد وحوشاً وسيوف مدهشة لقلة من البائسين يتغلبون على ألوف الأعداء المفترسين. بالكاد يتمكن المتفرج هنا من التقاط أنفاسه... وبالكاد تتاح له الفرصة ليفكر في ما يشاهد. انه الإبهار البصري في اعظم تجلياته، والسينما إذ تصل الى ابعد بكثير من اية حدود كان سبق الوصول اليها مرفقة بالصوت والموسيقى المدوّختين. في اختصار انه الإبداع الخالص الذي لا يمكن الوصول اليه إلا في الحلم او على شاشة عملاقة. فقط قد يحلو لنا هنا ان نتساءل: ترى، كيف سيبدو «ذى هوبيت» إن هو عرض على شاشة تلفزيونية في عزلة غرفة ما... مهما كان حجم الشاشة او براح الغرفة؟!
> شيء مثل هذا يحدث – ويمكن ان يقال ايضاً – في فيلم آنغ لي الجديد «حياة باي» الذي عرض بدوره بدءاً من اواخر العام... وهذا الفيلم مقتبس كذلك من رواية ذائعة الصيت نالت اقبالاً كبيراً خلال الآونة الأخيرة وتحمل العنوان نفسه. هنا ايضاً لدينا رحلة وهنا ايضاً لدينا مغامرات مدهشة، لكن هذا كله محدود مكانياً بالبحر الشاسع، وبشرياً بشخص واحد هو باي، الفتى الهندي الذي يروي لنا هو الأحداث بعد ان تقدم في العمر ومرت سنوات على مغامرته تلك – تماماً كما حال بيلبو شخصية «ذى هوبيت» المحورية الذي يروي لنا الأحداث الخارقة بدوره -. هنا ايضاً لدينا احداث خارقة وصراع مع الوحش: صراع بين باي والنمر البنغالي... صراع ميدانه البحر الهادئ حيناً والعاصف في احيان كثيرة وقد وجد الإثنان نفسيهما في عبابه على متن مركب انقاذ تمكن باي من الحصول عليه إثر غرق سفينة كانت تنقله وعائلته في رفقة مجموعة كبيرة من حيوانات تخص العائلة التي كانت مصطحبة اياها مهاجرة الى كندا. إذاً يحدث ان السفينة تغرق ويصل باي حياً الى مركب انقاذ ليجد عليه حيواناً مسالماً خائر القوى (حمار مخطط) وآخر اشبه بالضبع شديد الحيوية يريد ان يفترس كل ما يلتقيه. غير ان هذا كله يهون ويبقى الصراع اقرب الى المنطق حتى وصول النمر البنغالي قافزاً بدوره لتبدأ مغامرة باي المدهشة والمرعبة في آن معاً. وهنا مرة اخرى لدينا التصوير المدهش بالأبعاد الثلاثة الذي يعطي الصورة السينمائية أبعاداً فريدة، حتى وإن كان في 0نفسها... ومهما يكن، لا نعتقد ان اوسكارات تقنية ستكون بعيدة من هذا الفيلم كما عن «ذى هوبيت».
سينما الداخل الوديعة
> المخضرم برناردو برتولوتشي لن يتنطح هذه المرة لنيل اوسكار ما، بل يمكن القول ان احداً لم يحتجّ جدياً على عدم حصوله على اية جائزة او تنويه عن فيلم عودته بعد غياب طويل «انا وأنت» حين عرض في دورة «كان «الماضية... بل انه لم يكن في الأصل مرشحاً لأية جائزة. فالفيلم بسيط وحميم، وقد تبدو علاقته بمبدعه اشبه بما كانت عليه علاقة فرانسيس فورد كوبولا قبل سنوات بفيلم عاد به هو الآخر بعد غياب، ونعني بذلك تحفته الصغيرة «تيترو». فإذا كانت الحال كذلك، قد يتساءل القارئ لماذا ترانا ندرج «انا وأنت» في خانة الأفلام التي تعتبر من علامات العام المنصرم؟ بالتحديد لأنه فيلم حميمي وصغير. بسيط الكلفة. خال من النجوم. يدور مثل «حب» في مكان مغلق. وفيه عدد قليل جداً من الشخصيات: مجرد فتى مراهق وأخته الصبية في معظم الأحيان... في ذلك المكان المغلق الذي هو قبو البيت الذي تقيم العائلة فيه. ومع هذا لسنا هنا امام فيلم رعب على طريقة هيتشكوك او داريو ارجنتو، كما اننا لسنا امام فيلم إباحي خارق للأعراف من النوع الذي اعتاد برتولوتشي نفسه تحقيقه. كل ما في الأمر اننا امام فتى يرفض مرافقة فتية صفه في رحلة مدرسية تدوم اسبوعاً ويحبس نفسه، مع كل ما قد يحتاجه في القبو من دون معرفة اهله... وهو كان يتوقع ان يحدث له اي شيء في الكهف إلا انضمام اخته غير الشقيقة والتي تعيش بعيداً، اليه في وحدته وسكينته. هذا كل ما يحدث في الفيلم. لكن الجوهر ليس هنا. الجوهر هو اكتشاف الفتى للحنان والعاطفة الأخوية في عالم بات خالياً منهما...الجوهر هو تمكن السينما الهادئة والتي يحققها هنا سبعيني مخضرم، من نقل هذا الدرس بكل حنانه وتألقه والتسامح المتبادل الذي يخلقه. بهذا بدا «انا وأنت» فيلماً كبيراً لا أكثر ولا أقل..
> في هذا المعنى نفسه قد يكون في امكاننا ان نضم فيلم الفرنسي جيل بوردوس «رينوار» الى هذه اللائحة. فهنا ايضاً لسنا امام فيلم كبير. ولسنا امام انتاج ضخم. ولا مغامرات ولا لغة سينمائية فاقعة في الأمر. فقط لدينا سيرة مزدوجة. او بالأحرى سيرتان في سياق واحد... او بشكل حتى اكثر تعقيداً: سيرة صاعدة وأخرى هابطة. بدلاً من رينوار واحد لدينا هنا اثنان وأصلهما حقيقي في التاريخ الفني الفرنسي: الأول هو الأب بيار اوغوست رينوار، احد اساطين الفن الانطباعي خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، والثاني هو جان رينوار، أحد كبار المبدعين في تاريخ السينما وصاحب «الوهم الكبير» و «قواعد اللعبة» – بين اعمال اخرى – وهما المعتبران من العلامات الأساسية في تاريخ الفن السابع. وطبعاً لا يحكي لنا الفيلم في ساعتيه سيرة كاملة للإثنين، بل لحظة فاصلة في حياتيهما حين كان الأب الرسام على وشك الرحيل بعد ترمله، فيما الإبن في اول شبابه غير دار انه سيصبح بعد حين ذلك السينمائي الكبير الذي سيصبحه. اما نقطة اللقاء بينهما فامرأة كانت خادمة الأول وموديله وعشيقته، لتصبح بعد عودة الثاني محطماً جريحاً من الحرب، فاتنة هذا الأخير ثم عشيقته فزوجته بالتالي. وفي اثناء ذلك سنعرف ان رينوار الإبن انما قرر ان يصبح سينمائياً لمجرد انه عشق الفتاة وأراد ان يجعل منها ملهمته في الفن الذي كان ولد لتوّه بعدما كانت ملهمة ابيه في الفن الانطباعي... هنا في هذه العلاقة الثلاثية التي رسمت بقوة واحتراف مدهشين، على رغم اننا لسنا هنا على اية حال امام فيلم كبير، في هذا الفيلم السينمائي الذي ينبني بتكتّم من حول التبادل بين الأب والإبن، تكمن قوة عمل يأتي ليقول لنا ان ثمة مواضيع من الصعب على اي فن آخر غير السينما التقاط تفاصيلها...
وإثنان من عندنا
> وهذا في الواقع ما يمكن قوله – وإن في شكل موارب هذه المرة - عن واحد من فيلمين عربيين رأينا ضرورة ضمّهما الى هذه اللائحة، ونعني به اللبناني الروائي الطويل الأول للارا سابا «قصة ثواني». للوهلة الأولى تبدو لارا سابا في هذا الفيلم، آتية من اللامكان... او لنقل من عالم التلفزة. لكننا وبالتدريج ندرك انها آتية من وذاهبة إلى مكان سينمائي بامتياز. مكان يقف على الضد تماماً من المكان التلفزيوني الذي تأتي منه وتذهب اليه معظم الأفلام التي يحققها مخرجون عرب شبان في هذه الأيام. لقد كان من الصعب اول الأمر القول ان موضوع فيلمها نفسه عصيّ على العمل التلفزيوني (إذ ما الذي يمكن ان يكون اكثر تلفزيونية من حكاية حادث سير يجهض امرأة حاملاً، ويقتل زوجين وفي خلاله ثمة مراهق ترميه ظروفه الى رفقة سوء!)... فمثل هذا الموضوع كان يمكن ان يكون مادة اجتماعية شديدة العادية. ولكن لأن الأميركي جيم جاموش والمكسيكي اينياريتو مرّا من هنا... انقلب الوضع تماماً ليرتدي الموضوع لباساً سينمائياً عبر سيناريو متشابك كتب بعناية وقوة وفي تقاطع زمني يرتبط بحداثة سينمائية شديدة التألق... انها السينما الجديدة في اختصار.
> في المقابل، قد لا ينتمي الفيلم العربي الآخر على لائحتنا هذه، ليختتمها، الى السينما الجديدة ذات الطموحات الشكلية. ففيلم نبيل عيوش الجديد «يا جياد الله» عمل كلاسيكيّ سينمائياً، ومبني من ناحية موضوعه على حوادث تاريخية حقيقية تتعلق بعملية إرهابية شهيرة اقترفت في الدار البيضاء قبل نحو عقد. فمع هذا الفيلم الذي يتابع حياة «الإرهابيين الشبان» الذين قاموا بالعملية وأساليب تجنيدهم مقتلعين من بيئتهم الاجتماعية البائسة الخانقة، اوصل عيوش سينما الرصد الاجتماعي في المغرب على الأقل الى مستوى يقف على الحبل المشدود، لكنه تمكن من فرض حضور فيلمه بعيداً من الأفكار المسبقة والمواقف العاطفية. بهذا الفيلم قال عيوش بهدوء وثقة ان السينما لا تزال قادرة على ان تقول كلمتها من دون ان تغرق في التطرف سواء أكان تطرف الـ «مع» او تطرف الـ «ضد». وهو بهذا انضم في عام التبدلات الذهنية الكبيرة الى سينمائيين عرب يحاولون ان يعطوا السينما، سينماهم، أدواراً جديدة لم تكن على مثل هذا الوضوح من قبل...