2013/05/29
تمام علي بركات -تشرين
بينما يحتفل بها خارجاً كوثائق بصرية حية ضمن عروض موسمية كبرى، ترمى عندنا على شكل أكداس هائلة من الصولجانات والأحذية والفساتين وأقنعة المهرجين بوجوه ضاحكة باكية،
فها هو «كاليجولا» معلقاً بلا جهاد سعد، وهاهي كاليزونيا تنتفض مقتولة بغرامه دونما أي إيماءة من جيانا عيد، بينما يطرق/بابلونيرودا / بعيداً عن غسان مسعود وساعي بريده /ماهر صليبي/.
شخصيات عاشت على الخشبة، أو في زمن العرض، ثم ماتت في أقبية رطبة متروكة بين فكي النسيان والإهمال بلا أي رغبة من المسرح القومي ومديريته في التوثيق العادي لعروض بدأها في الستينيات ثم علقها على مشاجب صدئة تفوح منها رائحة عرق ممثليها وصرخاتهم المدوية، أما الآن فاتركوني وشأني، وافعلوا ما شئتم في غيابي.
مستودع: شخصيات تبحث عن ملابسها
في الفترة الأخيرة تم نقل المستودع بالكامل من القبو الموجود تحت مسرح الحمراء إلى أقبية أخرى في أول سوق الصالحية، وترك المشغل هناك ماكيناته القديمة وخيّاطاته: فادية عطفة وزينب زين الدين وسحر العلي وأخريات، وقد قمن بعزل ملابس المسرحيات كلِّ على حدة، هذه مسرحية رأس الغول، وهناك البيت ذو الشرفات السبع وهذا الثوب لبسته الفنانة أمل عمران في مسرحية فوضى، لكن بقية ملابس وأزياء هذه المسرحية التي حصلت على جائزة أفضل عرض وأفضل إخراج في مهرجان القاهرة الدولي تركت في طهران عندما شارك العرض في مهرجان مسرحي هناك!! كل الملابس وُضعت في أكياس نايلون، وقام بعض العمال بفرز ملابس كل مسرحية على حدة، إلا أن هذا العمل يتطلب وقتاً، هناك أزياء مسرحيات عرضت منذ الثمانينيات، وكانت في المستودع القديم مع بعضها، ولا بد من صنع خزانات خشبية وخزانة لكل مسرحية مع الإكسسوارات الكاملة وعرض قطع الديكور الصغيرة, قال لي أحدهم «رفض ذكر اسمه»: نحن نحتفظ بالأزياء لمدة سنتين من عرض المسرحية وذلك من أجل مشاركتها الخارجية في المهرجانات الدولية، لكن أهم الأزياء غالباً ما تترك في البلدان التي تمت فيها هذه المشاركات لتوفير أجرة النقل (يا أخي مالها لزوم؟!).
القرد الذي يتكرر
لا بد للمتابع والمكترث بالهمّ المسرحي وما يحيط به بأن يلاحظ أننا لا نملك التقنيات اللازمة لصناعة الزي المسرحي أو التلفزيوني، وفي مسرحياتنا تكرار هائل لأنماط الأزياء، وعبر التاريخ عرف مصممو الأزياء وبالفطرة كيف يجعلون أزياءهم تتحدث عنهم، فإذا ذهبنا إلى متحف اللوفر أو أي متحف في العالم يضم حضارات متنوعة، وبتواريخ مختلفة، لوجدنا استراتيجيات متعددة للزي، ليأتي باحث في التاريخ ويقول لنا: إن للزي سيكولوجية تتوافق مع الشخصية التي ترتديها وبذلك تتحد مع المجموعة، فيكون لكل مكان زيه الذي ينبثق من تقاليده، وعاداته، وطبائع شخوصه، كما لو أننا نرى مشهداً من فيلم وثائقي يحكي عن زمان مضى، ويفسر لنا من دون تعليق عادات ذاك الزمن من خلال شخوصه، وكما إن الأزياء تتحد باتجاهاتها مع أشكال الأجساد التي تتغير عبر التاريخ من خلال عاداتنا ومساكننا وممارستنا، لننظر إلى القرد أو الأرنب أو الدب الذي يتكرر في المسرحيات التي نقدمها للأطفال مثلاً! هناك جهل عام بالتصاميم المسرحية وعدم تفريق بين الزي الصامت بصرياً، والزي المتحرك في اللون وقدرة الجسد على تحريكه... في الحقيقة نحن لدينا خياطون وليس لدينا مصممو أزياء.
خزانة لكل مسرحية
الحقيقة لا يوجد لدينا متخصصون في تصميم الأزياء، فأغلب مصممي الديكور استفادوا من بعض الأزياء لمسرحيات قديمة تقاطعت مع رؤيتهم الفنية، والمطلوب مكان صحي للحفاظ على الأزياء القديمة، إلا أن الصعوبة تكمن عندما يحتاج أحد المصممين إلى أي زي من المستودع القديم.
الآن هناك رغبة بعد الانتقال إلى المستودعات الجديدة لفرز كل مسرحية على حدة، وتفصيل خزانات لوضع الملابس والإكسسوارات بعد أن ضاق قبو مسرح الحمراء، وتركت الديكورات مع الأزياء من دون أي ترتيب بسيط أو محاولة توثيق، وأما الذين عملوا في التصميم فهم يحاولون العودة إلى مراجع تاريخية للوصول إلى شكل نهائي للزي المقترح مع المخرج، وقدمت لمديرية المسارح طلبات من أجل مشغل خياطة، وهناك تجاوب لإيجاد تقنيات حديثة تساعد في إنجاز هذا العمل.
فاشلون حتى في التزوير
أسماء كبيرة تشتري أزياء مسرحياتها من السوق وهناك ما هو أسوأ من ذلك - فالبعض يقومون بشرائها من السوق ثم يعدّلون عليها بقطع من القماش فيخربون الزي بتصميمه اللوني، والحركي، ومع الأسف نحن فاشلون حتى في التزوير.
ـ في أكاديمية سان بطرسبورغ مثلاً يتعلم الطلاب وفق مدارس فنية عريقة تصميم الأزياء، فعروض الأوبرا لها أزياؤها الخاصة، وكذلك عروض الباليه الكبرى، وهناك عروض للأزياء المسرحية في ساحات عامة، كما يعلمونهم كيف تحرك الأزياء الديكور وبالعكس؟.
أما هنا فنحن نفتقر وبشدة للاختصاص، حيث لا رسم للزي المراد تصميمه!! فالمفروض أن يكون مصمم الأزياء المسرحية شخصاً يعرف كيف يرسم فكرته على الورق، ويعطيها لمنفذين حرفيين، ويراجع مطابقاً بين الرسم وما أنجز فعلاً، ناهيك عن المراجع التاريخية التي يجب أن يبدلها هذا المصمم للوقوف على نوعية الملابس في تلك الفترة من دون ارتجاليات غير علمية أو مدروسة.
أهديتهم أزياء مسرحية الطيراوي..
يقول الفنان «زيناتي قدسية»: لدينا مصممو أزياء عملوا معنا لسنوات طويلة منهم سحاب الراهب التي صممت أزياء مسرحية (البيت ذو الشرفات السبع) وهناك ستيلا خليل أيضاً مصممة جيدة، وأنا لا أناقش المصممين في تصاميمهم، وإنما أقول هذا طويل وهذا قصير... لكن أحياناً نتناقش في مسألة لون من الألوان، وأعتقد أن جانب المحافظة على الأزياء هو جانب مهمل في مديرية المسارح والموسيقا، لأنني لو طلبت الآن بعد مضي سنتين أو ثلاث الزي الذي ارتديته في (البيت ذو الشرفات السبع) هل سأجده كما هو معتنى به نظيفاً، أجل هناك تقصير في المديرية بشأن هذه الأزياء التي تشكل وثيقة لما قدمه المسرح القومي منذ الستينيات وحتى الآن، ففي دول العالم الأخرى تعلق هذه الأزياء في أماكن حضارية، ولها خزائن خاصة جداً، وأبوابها من زجاج غير قابل للاختراق، من أجل أن يبقى الثوب لمدة خمسين أو مئة عام أو مئتي عام، وهذا شاهدته في طهران وفي أكثر من بلد أوروبي مثل فرنسا وإيطاليا، وفي إيران مثلاً شاهدت عروضاً لأزياء مسرحية قدمت قبل مئة عام، وأنا شخصياً قدمت لهم في مهرجان الفجر قبل حوالي عشر سنوات الزي الذي كنت أمثل به في مونودراما (الطيراوي) لشخصية (أبو توفيق) وبعد ثلاث سنوات رأيتها في طهران معلقة في خزانة خاصة مع قطع الديكور البسيطة التي كنت أستخدمها على المسرح. أنا لا أحمّل المسؤولية لأحد بعينه، نحن كلنا في المديرية مسؤولون عن هذا الموضوع، ونحن مهملون للكثير من مكونات العرض المسرحي التي تشكل في مجموعها كتلة واحدة من الوثائق المهمة التي ترصد هذه المرحلة أو تلك، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذه المسألة، وإذا أردنا أن نؤرخ لتجربتنا ولاسيما أننا بدأنا مع مطلع الستينيات. فأين أرشيف عروض المسرح القومي؟ أين أزياؤه؟ أين صور هذه العروض المسرحية وأين نصوصها أو المقالات التي كتبت عنها في ذلك الزمن؟ أين الدراسات عن الممثلين والمخرجين الذين عملوا في مطالع الستينيات والسبعينيات؟ فإذا أراد أحد اليوم أن يقدم رسالة أو بحثاً عن المسرح السوري، فهل هناك دراسة في المديرية عن المرحوم(يعقوب أبوغزالة مثلاً)؟ أو عن التصاميم التي كان يقدمها (نعمان جود) أو (خزيمة العلواني) أو(أنور المرابط)؟ فلن تجد الأخبار متناثرة هنا وهناك في بعض الجرائد والمجلات. وفي مكتبتي الآن توجد كتب فيها صور ملونة وصور بالأبيض والأسود عن أزياء لعروض قدمت في باريس منذ خمسمئة عام، يحتفظون بها في متاحفهم عن أزياء عصر الباروك والعصر الإليزابيثي، فكل عصر له أزياؤه، أما نحن فعروضنا منذ ثلاثين عاماً ليس لها أي توثيق.
ثوب العيرة
البعض من المخرجين والممثلين قاموا باستعارة الكثير من الملابس والأزياء والإكسسوارات، فمثلاً حين يحتاج أحدهم مثلاً إلى لباس ملك أو وزير فهو يلجأ إلى مستودع الحمراء ويأخذ منه، لكن ثمة فِرَقاً تستعير أزياء بكاملها، ولا تعيدها للمستودع ما جعل أمين المستودع، متردداً في الإعارة حتى بعد الموافقات التي نأخذها من المديرية، وأذكر أن زهير بقاعي أخرج مسرحية(كاليجولا) ومثلها بالأزياء نفسها التي عمل عليها الفنان جهاد سعد، وبحضوره، بعد أن أجرى التعديلات المناسبة على مقاييس ممثليه. طبعاً ممكن أن نحصل من المستودع على الأزياء المنسقة و«من هون أو هون و بيمشي الحال».
لكن هل حقاً سيمشي هذا الحال وإلى متى سنهمل وثائقنا المتروكة تحت غبار الإهمال ورطوبة الأقبية ؟ أم إننا اعتدنا على شطب الذاكرة البصرية لمسرح استطاع في ثمانينيات القرن الفائت أن يكون بوصلة ثقافية وإبداعية للمسرح العربي عبر ما قدمه المسرحيون السوريون من عروض داخل الوطن أو خارجه.