2012/07/04
نديم جرجوره - السفير
واجهت الممثلة اللبنانية دارين حمزة موقفاً عدائيّاً ضدها من قِبَل متشدّدين. هاجموها لأدائها دوراً مختلفاً في «بيروت بالليل» (2011) لدانييل عربيد، دوراً مختلفاً عن قناعات أناس متمسّكين بتقاليد متزمّتة في ممارسة عيش يومي. في سلوك منهج تربوي صارم. في جعل الأخلاق المعلَّبة قواعد حياتية محدّدة. رفض هؤلاء ما فعلته الممثلة. أساساً، لم تفعل شيئاً آخر سوى التمثيل. هؤلاء لا يعرفون معنى التمثيل أساساً. يظنّون أن دوراً واحداً يجب أن يُقيّد الممثل إلى الأبد. يجب أن يمنعه من تأدية أدوار أخرى. لا يهمّ نوع الأدوار الأخرى. فما قدّمه في هذا الدور من دون سواه، بات قيداً لا يُفَكّ. بل ممنوع على أحد أن يفُكّه.
اتّهامات
هذا إرهاب لا يختلف عن إرهاب يؤدّي إلى القتل. هذا قتل من نوع آخر. من نوع أخطر. أن تُحاصِر فناناً في دور واحد لا يتبدّل وإن تبدّلت الأعمال والشخصيات، لا يختلف عن محاصرة فنان بحكم قضائي يمنعه من العمل الإبداعي. هذان لا يختلفان عن قتل إنسان أيضاً. لن أستعين بمفردات «ضخمة» في رفضي المطلق حصاراً كهذا تعرّضت له دارين حمزة ودانييل عربيد. للفنان حرية مطلقة في اختيار ما يشاء. في ممارسة مهنته بالطريقة الأنسب إليه. الشرط الوحيد كامنٌ في إتقانه تأدية الدور، أو في إنجازه العمل. كامنٌ في القناعة الفعلية للفنان في تأدية هذا الدور، أو في إنجاز هذا العمل. كامنٌ أيضاً في قدرة الفنان على الدفاع الحقيقي عن عمله، وإن اختلفت الآراء بينه وبين الآخرين. فكما يحقّ له أن يُنجز ما يؤمن به، يحقّ للآخرين مناقشته في عمله هذا، لكن من دون تخوين، أو اتّهامات باطلة، أو عدائية قاتلة.
لم تشأ الفنانة المصرية صابرين تقديم أي دور آخر، بعد تأديتها دور أم كلثوم في مسلسل تلفزيوني أخرجته إنعام محمد علي في العام 1999. قناعتها هذه نابعةٌ من أنها، بتمثيلها أم كلثوم تحديداً، بلغت مرتبة لا مرتبة بعدها. لا أعرف ماذا فعلت صابرين لاحقاً، لعدم اهتمامي بمسائل كهذه. لكن قرارها الأول ناتجٌ من سذاجة لا تُحتَمل. من ادّعاء باكتمال التمثيل. صابرين ليست أحمد زكي طبعاً. الممثل المصري الراحل شكّل حالة تمثيلية لا مثيل لها في جيله، وفي الجيل اللاحق له أيضاً. مثّل شخصية جمال عبد الناصر في «ناصر 56» (1996) لمحمد فاضل. عندما أُعلن عن بدء التحضيرات لتأديته دور أنور السادات في «أيام السادات» (2003) لمحمد خان، شُنَّت حملة شعواء ضدّه، بحجّة واهية ومتخلّفة: هل يُعقل أن يمثّل أحدهم دور السادات، صاحب كمب ديفيد، بعد تمثيله دور عبد الناصر؟ أية سذاجة هذه. الموقف الأجمل والأهمّ لأحمد زكي، كامنٌ في جواب مختصر: أنا ممثّل. الحِرَفية أهم. الأداء المتطوّر أهمّ. لا يعنيه الشخص الحقيقيّ، على مستوى التمثيل. إنه ممثل محترف. ممثل أنقى وأجمل وأفضل وأصدق (إنسانياً وتمثيلياً) وأهمّ من كثيرين غيره.
لا تزال دارين حمزة في بداية الطريق الفنية الطويلة. لكنها ممثّلة. مهنتها تُحتّم عليها اختيار أدوار ترى أنها نافعةٌ لها على مستوى تطوير الأداء وبلورته والاستفادة منه. هذا منوطٌ بها وحدها. النتيجة الظاهرة على الشاشة، الصغيرة أو الكبيرة، تُصبح مُلك الناس، مشاهدين ونقّاداً. تُصبح خاضعة لنقاش سوي. لكن، أن تُتَّهم بخلعها حجاب «الغالبون» (2011) لباسل الخطيب من أجل التعرّي في «بيروت بالليل»، فنابعٌ من موقف «تقديسيّ» لشخصية أو عمل، ومن موقف متعال يدّعي عفّة أخلاقية. التقديس، كما التخوين والاتّهام الفارغ، يمنع النقاش. يمنع الحوار. يمنع الانفتاح على التحليل والتفكيك والقراءة والتواصل. فهل تُمنع دارين حمزة من التمثيل، لأنها أدّت دور امرأة محجّبة في «الغالبون»؟ هل «الغالبون» كتاب مقدّس لا يُمسّ؟ هل شخصياته مُقدّسة أيضاً، يُمنع ممثلوها وممثلاتها من العمل إلاّ في أجزاء لا تنتهي منه؟
عدائية
أحد الأسئلة الصدامية والعدائية الموجَّهة إلى دارين حمزة، منطلقة مما «نُقل» عنها: أكّدت أنها لم تكن هي نفسها من أدّى اللقطات الجنسية الحميمة بين شخصية زها وعشيقها الفرنسي ماثيو (شارل بيرلينغ)، بل ممثلة بديلة. شخصياً، لم أسمع تأكيدها هذا، ولم أقرأه. أحدهم كتب ساخراً: لو أن هناك «ممثلة بديلة»، فلمَ لم تظهر هذه الأخيرة. أية سذاجة. من كتب هذا لا يُدرك شيئاً عن عالم التمثيل السينمائي (والتلفزيوني). صناعة السينما مليئة بالممثلين البديلين، الذين يؤدّون وظائف لا يرغب الممثلون تأديتها. أو ربما لأن المنتجين يرون أن الممثل البديل أفضل، شكلاً أو تدريباً. لم تُظهِر جوليا روبرتس ساقيها أمام الكاميرا لأنهما غير صالحتين بالنسبة إلى الشخصية التي أدّتها في «امرأة جميلة» (1990) لغاري مارشال، فكان خيار ممثلة بديلة حلاًّ نافعاً. الغالبية الساحقة من الممثلين لا تؤدّي المشاهد الخطرة أو الجنسية. هذا أمر معروفٌ تماماً في صناعة السينما. أفترض أن دارين حمزة لم تكن هي نفسها من أدّى دور زها في اللقطات الجنسية. هذا جزء من العمل السينمائي. أفترض أنها أدّت الدور هذا تحديداً بصفة شخصية. إنها ممثلة. هذا أمر طبيعي جداً. هذا واقع إبداعي. لكن النقاش النقدي يُفترض به أن يطال العمل والأداء والتفاصيل الأخرى، لا أن يقف عند «لقطات» كهذه، للانقضاض على الممثلة فقط، بحجج «أخلاقية» واهية. يحقّ للممثل أن يؤدّي الأدوار التي يراها لائقة به وبمسيرته الفنية. يحقّ للممثل المطالبة بنقاش يطال كيفية التمثيل. يطال التقنيات والاشتغالات الفنية والجمالية والدرامية. لا أن يتعرّض لحملات مليئة بالحقد والتعصّب والتزمّت والتقوقع والعزلة، لأنه أدّى لقطة لم تنل إعجاب متزمّتين.
لم أُشاهد الحلقات كلّها من المسلسل التلفزيوني «الغالبون». لا تعنيني أعمالٌ تجتزئ التاريخ وتحوّر مساراته، أو تلغي فصولاً أساسية ومهمّة منه. لكنّي مُدركٌ بعض الخطوات التي أنجزتها دارين حمزة في مسارها التمثيلي. شاهدتها في فيلم سينمائي سيئ للغاية، عنوانه «شولا كوهين» (2008) لفؤاد خوري، أظهرت فيه إمكانيات لديها في الأداء الجدّي والواعي معنى العلاقة بين الدور والممثل. أو بين الشخصية ومن يؤدّيها. شاهدتها في «بيروت بالليل». لفتت انتباهي إلى تقدّمها خطوات إضافية إلى الأمام، تمثيلاً وغناء. لم يكن المطلوب منها غناء مستوفياً شرطه الإبداعي. عاب عليها أحدهم عدم اتقانها اللغة الفرنسية. عدم إتقانها مفردات الغناء. ارتباك نطقها الفرنسي نابعٌ من ارتباك الغالبية الساحقة من اللبنانيين في نطقهم اللغة الفرنسية. الارتباك انعكاس لادّعاء لبناني بمعرفة اللغة الفرنسية. غناؤها منسجمٌ وانكسار امرأة وخيبتها وضياعها في ليل مدينة بائسة ومخادعة وكاذبة. دورها في «بيروت بالليل» تميّز ببراعة أدائية في تقديم شخصية امرأة تائهة وقلقة ومجروحة وممزّقة. هذا امتياز لها. هذا تعبيرٌ عن حِرفية، لن يُقلّل من شأنها هجوم متزمّتين عليها، لأنها تعرّت.
في «بيروت بالليل»، عرّت دارين حمزة هؤلاء وآخرين، لأنها كشفت ودانييل عربيد جزءاً من هذيانهم وتصنّعهم الأخلاقي.