2013/05/29
علاء محمد – دار الخليج
“شوكت القناديلي” في ملحمة “حمّام القيشاني”، تلك السلسلة التي امتدت على خمسة أجزاء تم فيها تأريخ ثلاثة عقود من المشهد السياسي السوري في القرن العشرين، مع المخرج الراحل هاني الروماني .
“شوكت القناديلي” ذاك، لم يكن اسماً حقيقياً عاش معتركات السياسة السورية منذ الثلاثينات وحتى الستينات من القرن المنصرم، بل كان شخصية درامية تم زجها بين شخصيات من رؤساء ووزراء وقادة جيش نفّذوا الانقلابات العسكرية الواحد تلو الآخر، لكن تلك الشخصية كانت الصورة الرمزية للشعب والحياة المدنية في البلاد، التي أراد المخرج المبدع “الروماني” أن يجعلها تموت فجر الثامن من آذار / مارس 1963 لحظة وصول حزب البعث إلى السلطة في دمشق، في إشارة إلى مقتل أصحاب الحياة المدنية والشعبية في سوريا .
“شوكت القناديلي”، كان النجم الذي أفل قبل نحو أسبوع، مسلماً روحه إلى بارئها . . إنه طلحت حمدي النجم الذي أسر قلوب السوريين والعرب في سبعينات وثمانينات القرن الماضي حيث بسط ذراعيه على مساحة النجومية كلها، حتى عرف بنجم العرب الأول باعتراف رموز الوسط الفني في كل من سوريا ومصر .
اختلفت الرواية حول تاريخ مولد طلحت حمدي، فبينما قال البعض إنه ولد في العام ،1938 كان جواب حمدي لكاتب هذه السطور هو الصدقية بذاتها: “أنا من مواليد 1942” . . ومن هنا، فإن الرجل عاش سبعينية في سوريا لم يكتب لها النهاية إلا بعد مغادرته لسوريا بساعات قليلة .
ظهر الأحد الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كان آخر اتصال بيننا وبين “أبي أحمد”، وكان ما يزال في دمشق حسب تأكيده، سألناه: إلى أين؟ . . قال: سأسافر لسنة أو سنتين على الأكثر خارج سوريا وبقصد العمل، وبعدها سأعود إلى دمشق من جديد فلا بديل عن سوريا إطلاقا . سألناه عن الوجهة: قال بلد عربي وسأخبركم به خلال أيام عبر الهاتف .
في اليوم التالي علمنا أن “أبو عزو” في “حمام القيشاني” بات في عمّان، وبعد يوم آخر، جاءنا النبأ بأن من عاش في سوريا سبعين سنة، لم يستطع العيش خارجها لسبعين ساعة، فخارج سوريا وبعيداً عن دمشق بالذات، توقف قلب طلحت حمدي عن النبض، ولم يكن لإسعافه إلى أقرب مستشفى في عمان فائدة، فالطبيب أكد وفاته لحظة توقف قلبه في المنزل الذي لم يسكنه سوى لساعات قليلة وكأنه ذهب في رحلة فنية لم تكتمل .
ليس خبراً أن يعود جثمان حمدي إلى دمشق، بل وإلى مسقط رأسه في منطقة ركن الدين، وأن يصلى عليه في المسجد الذي يعرفه منذ طفولته “مسجد صلاح الدين” وأن يدفن في مقبرة الشيخ خالد الكائنة في المنطقة نفسها، والتي شارك لعقود طويلة في تشييع ودفن كل من توفي من أبناء حيّه في تربتها . لكن ما هي أخبار عن رجل رحل باكراً رغم بلوغه سناً متقدمة، هو ما كان يقوله في مختلف جلساته، الخاصة والعامة، عن حياة مهنية ووطنية عانى فيها ما عاناه طوال العمر .
كثيرا ما قال حمدي: “كنا في الستينات نصور حلقة تلفزيونية ونهدر في سبيل إنجازها أياماً عديدة بحكم أن أي خطأ يرتكب ولو في المشهد الأخير، كان يستوجب إعادة تصوير الحلقة كاملة، لأن المونتاج لم يكن قد عرف في تلك المرحلة . . وفي النهاية، كنا نحصل على أجر زهيد لا يتجاوز الأربع ليرات عن الحلقة الواحدة” .
وكثيراً ما قال أيضاً: “بعد مجيء شركات الإنتاج الخاصة إلى سوريا منتصف التسعينات، تم ابتلاع الإبداع والمبدعين لمصلحة الخواص من الناس الذين ترضى عنهم تلك الشركات . . فتصور أن يؤتى بممثل شاب عمره في العشرينات أو الثلاثينات ليقوموا عبر الماكياج بتكبيره ليبدو شكله ستينياً، فيلعب أدواراً هي أدوارنا نحن الذين أسسنا الدراما وتعبنا في سبيلها! أليس هذا مس بكرامة الفن والفنان السوري الذي اشتغل بالمجان أحياناً ليصل إلى يوم يرى أرضه محروقة عبر شركات جاءت بالأمس”؟!
كانت مسرحية “الزير سالم” التي قدمها ولعب بطولتها النجم طلحت حمدي في السبعينات نقطة انطلاقة له إلى النجومية التي لم تحدها نجومية أخرى لعشرين عاماً تالية، وقد سوّقت تلك المسرحية في مختلف البلدان العربية وحضرها في مصر أبرز نجوم المسرح المصري وأدبائه ومؤرخيه . كما كان للعرض الرائع لحمدي في لبنان مفعول كبير، جعل من إدارة المسارح في بيروت تفكر بإعادة استيلاد مسرح الشخصيات التاريخية وفق ما جاء في صحيفة النهار اللبنانية في تحقيق موسع في العام 1987 .
بعد ذلك العمل انطلق طلحت في سماء الدراما السورية لا يحده حد، وبرز كرقم واحد في حسابات كل المخرجين، فأبدع في رائعة “غضب الصحراء” مع المخرج هيثم حقي والكاتب هاني السعدي، واستطاع أن يعطي للأعمال الفنتازية معنى آخر باعتراف حقي نفسه الذي أكد في وقت سابق أن العمل نجح مرتين، مرة لشموليته ونجومية ممثليه، ومرة لإبداع طلحت حمدي فيه .
كان طلحت حمدي أول فنان يتجرأ على افتتاح شركة إنتاج خاصة في سوريا وذلك في مرحلة الخسارة المرتقبة والمتوقعة وشبه المؤكدة لكل من يخوض في هذا المعترك، ولأن وقتها كانت مرحلة القناة الواحدة في كل بلد عربي . كان عليه أن يدفع من جيبه الخاص على مسلسلات ينتجها، وعليه انتظار الخسارة المبرحة لغياب أدنى دعم لهذا القطاع في سوريا .
وبالفعل افتتح حمدي شركته المتواضعة وراح ينتج ثلاثيات وسباعيات وأفلاماً وثائقية ومسلسلات كاملة من ثلاثين حلقة أو 15 حلقة، وكانت الخسارة مداومة في مسيرته الإنتاجية لكنه لم يكن يقلع عنها لإيمانه بأن ما يقدمه هو فن وإبداع يخسر في سبيلهما الكثير . وظل كذلك حتى جاءت الشركات الخاصة ذات الملايين من الدولارات، فاقتلعت كل الشركات الأخرى من جذورها وأجبرت طلحت حمدي على العودة للتمثيل والكتابة للتلفزيون .
قال طلحت حمدي في كلام خاص ل”الخليج” سبق أن نشر قبل أربع سنوات: “جاءت الشركات الخاصة فقام أصحابها بمحاربة كل من كان له كلمة في السابق، وكل من كان جريئاً في تناول الدراما، وعلى ذلك، تم تهميشي بشكل فظيع ومكشوف، وأصبح طلحت حمدي من الذين لا تقدم لهم عروض في دراما كان هو من بنّائيها قبل أن يعرف أولئك ما تعنيه كلمة دراما لغوياً ولفظياً”!
طلحت حمدي كان أيضاً أول ممثل سوري تقوم جهة حكومية برفع دعوى قضائية بحقه، وذلك قبل عشرين عاماً، بعد إخراجه لمسلسل “المكافأة” والذي تناول فيه واقع المعلمين في سوريا وإهانتهم واعتبارهم أرقاماً في المجتمع . . خسر حمدي في الدعوى الكثير، لكنه كسب لدى الجمهور الكثير، وحسبه أنه كان أول من تناطحه الدولة .
كان لصحيفة “الخليج” قيمة كبيرة ومعزة خاصة لدى طلحت حمدي . ومما قاله بها قبل فترة لشاعر سوري كبير ومعروف: “هذه الصحيفة هي الوحيدة من بين سائر الصحف العربية التي تتناول الشأن السوري منذ بدايته وحتى الآن بمنطقية، فلا انحياز لطرف دون آخر إلا وفقاً للحدث على الأرض” .
وقال: “ولدي أحمد في كل يوم يفتح الإنترنت ويفتح صفحات “الخليج” فأقرأها، وكذلك عندما أزور الإمارات، وهي أول صحيفة أقرأها عند الصباح” .
يبقى أن نذكر أن طلحت حمدي سبق أن تزوج من نجمة سورية في السبعينات هي الراحلة سلوى سعيد، وهو من عائلة الأيوبي التي فقدت في العام الماضي الكاتب الإذاعي الشهير خالد الأيوبي شقيق طلحت في ظروف مماثلة تقريباً .