2012/07/04
قراءات في السينما السورية (1)
سينما عبد اللطيف عبد الحميد.. معادلة الجمهور والجوائز
خاص بوسطة_عوض القدرو
بالرغم من الإنتاج القليل للسينما السورية، لكنها وعبر السنوات السابقة، استطاعت أن تكون موجودة على الساحة السورية والساحة العربية والدولية، ولكن الملفت للنظر أن هناك بعض الأفلام أثبتت وجودها على الساحة الدولية والعربية من خلال المهرجانات والجوائز التي كانت تحصُدها، وغابت جماهيرياً، وهذا لا يعني أنها لم تعرض جماهيرياً، لكن بعض هذه الأفلام لم تحقق المرجو منها عند العرض الجماهيري، وقلة منها حققت الحضور الجماهيري، وهناك دائماً ثمة انتظار لبعضها من خلال سمعة وجماهيرية صانعها، وهنا لابد أن نذكر سينما عبد اللطيف عبد الحميد الذي هو محور حديثنا من خلال هذه الأسطر.
هذا الشاب الذي قصد موسكو عام 1977 لدراسة السينما، ليعود بعدها إلى سورية وفي جعبته 3 أفلام قصيرة أنجزها خلال دراسته في المعهد: "تصبحون على خير"، "درس قديم"، "رأساً على عقب"، ومن يتمعن قليلاً في عناوين هذه الأفلام سيجدها مختلفة قليلاً، وربما كثيراً، عن عناوين الأفلام السورية في تلك الفترة، أمر إن دل على شيء، فهو يدل على شخصية مخرج هذه الأفلام، ليعطيك انطباعاً عنه حتى قبل أن تشاهد أفلامه. تدلك على شخصية مخرج شفاف وعفوي وأبيض الروح، وهذا ما تأكد تماماً من خلال فيلمه الأول في سورية "ليالي ابن آوى" عام 1988، بعد بطولته المتميزة وإبداعه في فيلم "نجوم النهار" كممثل للمخرج أسامة محمد عام 1987.
في "ليالي ابن آوى" قدم عبد اللطيف عبد الحميد نفسه مخرجاً يحمل هماً سينمائياً بالفطرة، مخرجاً لا يصنع فيلمه بالشوكة والسكين، وإنما يُشعرك أنه كتب سيناريو الفيلم بالاشتراك مع شخصيات فيلمه الحقيقية التي هي من لحم ودم، أو يُشعرك أن هذه الفيلم مُرتجل ولم يُعدّ له سيناريو مسبق، فمنذ فيلم "ليالي ابن آوى" وجد عبد اللطيف عبد الحميد أن أسهل طريق لجمهور الفن السابع هو طريق القلب ومحاكاة الروح، وذلك بعد أن اعتاد جمهور السينما في سورية على نوع معين من الأفلام مع بداية العهد الجديد للسينما السورية، الذي بدأ مع فيلم "أحلام المدينة" للمخرج محمد ملص والذي كان عبد اللطيف عبد الحميد ضمن مجموعة المخرجين الذين وقفوا مع ملص في تجربته السينمائية الأولى، وواحداً من ذلك الجيل السينمائي العائد من دراسته حاملاً مشروعه السينمائي، مغلفاً بحلم صناعة سينما سورية جديدة.
بدأ عبد اللطيف عبد الحميد الإعداد والتجهيز لفيلمه الروائي الطويل الأول "ليالي ابن آوى"، وحيداً مع قلبه الذي ينبض بتلك الحياة الجميلة البسيطة التي نشأ وتربى فيها عبد اللطيف، وحمل منها البساطة والعفوية، فخط قلمه سيناريو فيلم "ليالي ابن آوى" الذي ربما يكون أفضل السيناريوهات التي كتبها عبد اللطيف عبد الحميد منذ بداية مشواره السينمائي ولغاية الآن.
وبقراءة سريعة لهذا الفيلم، نجد أن عبد اللطيف عبد الحميد قدم عوالم البيئة الساحلية بشكل أعمق وأبسط أكثر من الفيلم الأول الذي قدم هذه البيئة للسينما، والذي كان "نجوم النهار" للمخرج أسامة محمد.
لو طالعنا قليلاً فيلم "ليالي ابن آوى" وشاهدناه من زوايا معينة، لوجدنا أن هناك سراً خفياً فيه، هذا السر من أسرار سينما عبد اللطيف عبد الحميد سرعان ما ينكشف مع الدقائق الأولى للفيلم، وذلك من خلال الاستعراض الحركي للكاميرا وتقديمها لشكل المكان بطريقة شاعرية بسيطة، كاميرا تفتح أفق عيون المُشاهد على عالم كبير وحميم وعميق تختزنه نظرات "مُطيعة"، الزوجة المطيعة دوماً في الضراء، والمتقبلة دوماً وأبداً للمرارة التي يُكرسها زوجها المتسلط الذي لا يتوقف عن تقديم النصائح والدروس للآخرين، بينما منزله وعائلته تتآكل من الداخل وعواء بنات آوى يجتاح جسد هذا الزوج كاجتياح النار للهشيم.. عائلة مؤلفة إضافة للزوجة من ثلاثة أبناء وابنتان.. كلهم يعيشون من أجل إرضاء رب هذه الأسرة، وكأن حلم هذا الرجل لتكوين هذه الأسرة كان من أجل حب التسلط، بينما الذي لم يكن في الحسبان هو ذلك العواء الذي يقضُ مضجعه ولا يستطيع فرض سطوته عليه إلا من خلال أعماق زوجته الصابرة المطيعة التي تتعامل بحب مع هذا العواء.. هذا المارد الموجود على شكل إنسان يجعله عبد اللطيف عبد الحميد يتهاوى مرة تلو الأخرى عند المشاهد، وبنفس الوقت كشخصية في الفيلم يعزز سطوتها وقوتها من خلال فشل ولده الأكبر في الدراسة، وهروب ابنته مع من تحب.. كل هذا لا يزعزع من سطوة وجبروت هذا الرجل، إلى أن يأتيه خبر استشهاد ابنه في الحرب.. هنا في جلسة فك الحزن عن الأم الحزينة على هروب ابنتها، يكشف عبد اللطيف عبد الحميد عن تلك الهشاشة الموجودة في نفس هذا الرجل ليجعله ينهار عند سؤال زوجته له عن ابنه طلال، في مشهد يجمع القسوة والحنان.. مشهد يصور انهيار الجبروت أمام الإنسانية التي تبقى رغم كل شيء، ومع فقدان هذه الجبروت يأتي دور بنات آوى، لتطلق رصاصة الرحمة على الجبروت ولتنتقم لأجل الحب والإنسانية.
فنياً وقياساً على الفترة الزمنية التي أنجز فيها الفيلم وعلى الإمكانات المتاحة في ذلك الوقت، لا يمكن لأي كان وللوهلة الأولى عند مشاهدة هذا الفيلم أن يكتشف أنه الفيلم الروائي الطويل الأول لعبد اللطيف عبد الحميد، كون هذا الفيلم يتمتع بلغة سينمائية مبسطة وعميقة ويدل على امتلاك وتمكن عبد اللطيف عبد الحميد من كافة أدواته وتوظيفها ووضعها في مكانها المطلوب، وهذا ما أثبتته فيما بعد الجوائز العديدة والكثيرة التي حصدها الفيلم في أهم المهرجانات العربية والدولية، إضافة للحضور الجماهيري الكثيف.. إذ تواصل عرض الفيلم وفي كافة المحافظات السورية لمدة خمسة أشهر متواصلة دون انقطاع..
في "ليالي ابن آوى" كان جلياً حب عبد اللطيف عبد الحميد لشخصيات فيلمه، وأكبر دليل على ذلك دور الأم الخالد، الذي قدمته الراحلة نجاح العبد الله في هذا الفيلم، والذي يعتبر من أهم أدوار الأم التي قٌدمت في السينما السورية.. وكذلك الأمر بالنسبة للنجم العملاق أسعد فضة الذي قدم واحداً من أفضل أدواره في السينما السورية، والذي نال عنه جائزة أفضل ممثل في مهرجان دمشق السينمائي الخامس، وعلاوة عن ذلك كان عبد الحميد قد اكتشف وقدم في هذا الفيلم النجمة تولاي هارون في أول أدوارها، وكذلك الأمر كان بداية بزوغ نجومية الفنان النجم بسام كوسا.
بطاقة الفيلم: "ليالي أبن آوى".
سيناريو وإخراج: عبد اللطيف عبد الحميد.
إنتاج وتوزيع: المؤسسة العامة للسينما.
بطولة: أسعد فضة، نجاح العبد الله، بسام كوسا، زهير رمضان، تولاي هارون، نهال الخطيب، محسن غازي.
سنة الإنتاج: 1989.
الجوائز: سيف دمشق الذهبي وجائزة أفضل ممثل عام 1989، الزيتونة الذهبية في مهرجان حوض المتوسط 1989، الجائزة الذهبية في مهرجان الفيلم الأول الدولي في أنوناي بفرنسا 1990، والعديد من المشاركات العربية والدولية.
.... يتبع ....