2012/07/04
عمر محمد جمعة - البعث
إذا تجاوزنا تلك المشكلة المؤرّقة، المقلقة على مصير إنتاجنا الدرامي، من أن الكثير من فناني اليوم باتوا، وبعيداً عن تحفيز طاقاتهم الإبداعية، أشبه بدمى خشبية مشلولة، يحرّكها المخرج كيفما يشاء بخيوطه وأصابعه المتوارية خلف الكواليس، بل صاروا شخصيات عدّة في شخص واحد وكاركترات مختلفة في كاركتر واحد. أو إذا سلّمنا أن ظروفاً قاهرة و”زحمة الشغل” تُجبر هذا الفنان أو تلك الفنانة على استنساخ نفسه في ثلاثة أو أربعة مسلسلات دفعة واحدة، ولاسيما نجوم الصف الأول، فإننا لن نغفل على الأقل- وهذا حقنا كمشاهدين- عن قصّة المسلسل ومغزاه وحكايته التي تقتطع ساعات وساعات من أوقاتنا المفتوحة في ظل التحوّلات التكنولوجية المتسارعة على كثير من الخيارات الأخرى.
ومن نافل القول إن ضرورة نجاح أي عمل درامي، تفرض أن تكون حكايته قريبة إلى الوجدان الشعبي، وتعني الشريحة الاجتماعية الأكبر، موظفة لتقدّم قيمة إنسانية إضافة إلى قيمتها الجمالية والفنية، فيها من التشويق والإدهاش ما يشدّ المتلقي إلى متابعة تفصيلاتها مروراً بعمق أحداثها وذراها، ووصولاً إلى النهايات التي ربما تكون تقليدية أو تكسر حدود المتوقع، فتترك المشاهد في بحر من التساؤلات التي تنطوي بالطبع على تلك القيمة الإنسانية الموعودة.
لقد خلدت كلاسيكيّات الدراما السورية ورسخت في وعينا بسبب بساطة حكايتها ونزوعها إلى ملامسة القاع والهمّ الاجتماعي، بل إن الشخصيات التي ألبسها حكمت محسن لبوساً شعبياً، على سبيل المثال لا الحصر، ظلّت في الذاكرة حتى اليوم، وكذا الأمر بالنسبة للفنان الكبير نهاد قلعي الذي اجترح الابتسامة من وسط التراجيديا والعبث الإنساني في الصراع بين الخير والشر في شخصيتي غوار وحسني البورظان، وكل ذلك كانت مرجعيته، كما نعتقد، اعتماد كتّاب تلك الفترة على الحكايات الشعبية التي كان يتناقلها الناس عن طريق الرواية الشفوية، ولعب الخيال الشعبي دوراً كبيراً في صياغتها وإعدادها درامياً، بعيداً عن الإغراق في شطحات ذلك الخيال، ووقوفاً عند حدود الحياة اليومية والأمور الهامشية الصغيرة، فيما الأمر ذاته نلمسه اليوم في تجربة الكاتب ممدوح حمادة في مسلسله الشهير "ضيعة ضايعة" الذي كانت اللهجة وطبيعة المكان إضافة إلى الحكاية والمغامرة اليومية لـ"جودة وأسعد" إحدى أهم عوامل نجاحه، كما لا نغفل عن الكثير من الأعمال المعاصرة الأخرى التي انتبهت إلى أن معايير التلقي وخيارات المشاهدة اختلفت زواياها، فرفعت السقف عالياً وانبرت إلى العناية بالحكاية والحبكة الدرامية بقيمها وفضائلها التي تقترب أكثر من الجمهور وتعبّر عما يرنو إليه أو يحلم به. على أن اللافت في مسيرة المنجز الدرامي السوري برمته، وهي سمة تُحسب له، ذلك التنوع في الحكايات في مستواها الشعبي الواقعي والأسطوري الطافح بالخيال، فكان نزوع بعض الأعمال إلى الفانتازيا التاريخية كسلسلة "الجوارح" لنجدة أنزور وما تلاها، والتي أسطرت الهمّ الإنساني في حكاية أقرب إلى خرافات الجدات وحكاياتهن عن الجان والأميرة العاشقة أو الأمير المهزوم، واعتماداً على أحداث تاريخية ومبالغة بالخيال وغرائبية بالشخصيات والطقوس التي تعود في أصولها إلى الأساطير والديانات الأرضية المبكرة، ليأتي بعد ذلك تيار الفانتازيا الاجتماعية في سلسلة "باب الحارة" التي اتكأت على موروث شعبي دمشقي ثرّ، نجزم أن متنه الرئيسي "حوادث دمشق اليومية" للشيخ أحمد بديري الحلاق، الذي قيل أيضاً إن "الحصرم الشامي" بأجزائه لفؤاد حميرة قد استفاد كثيراً من طبيعة حكاياته وخصوصيتها، وبالقدر ذاته أعادت بعض أعمال البيئة (شامية، حلبية، ساحلية) إنتاج الماضي دون أن توثقه، بل اكتفت بما أخذته من حكايات وفلكلور يذكر بماضي هذه المنطقة أو تلك.
أما في أعمال ومسلسلات أخرى، ولاسيما الحلقات المتصلة المنفصلة، فقد تمّ استثمار الكثير من الحكايات المتداولة وتحميلها إسقاطات بعضها سياسي وآخر اجتماعي يسلّط الضوء على الكثير من الظواهر فيحلّلها وينتقدها، مثل بعض لوحات "مرايا" و"بقعة ضوء".. فيما لجأت مسلسلات أخرى إلى الحكاية الواقعية وتقديمها بشكلها الصادم ودون أي تجميل، كما ظهر مثلاً في "غزلان في غابة الذئاب" و"الانتظار" و"زمن العار" وأخيراً "الولادة من الخاصرة" و"سوق الورق".. وسواها.
إن هذا الغنى والانفتاح على كل صنوف القصص والحكايات وإيلائها الاهتمام الذي تستحق، وتوظيفها توظيفاً درامياً بالشكل الصحيح، لا يعني أننا نطلب من الكاتب أن ينافس تشيخوف أو يتفوّق على عزيز نيسين أو إدغار آلان بو، أو يكون نسخة عن نجيب محفوظ أو زكريا تامر، بل المطلوب أن يُكسب حكايته بعداً تشويقياً تشدّ المتلقي حتى نهايتها، تمتعه وفي الوقت ذاته تقنعه أن المؤلّف خلق شخصيات من لحم ودم وامتلك خيوط اللعبة كاملة، ولم يجمع محوراً من هنا وآخر من هناك ليركبها في مسلسل، قد لا تنجح كل الحلول الإخراجية في إنقاذه من خوائه الحكائي ومغزاه الذي يعدّ حقاً الرافعة الأهم في تقريبه من وجدان المشاهدين ووعيهم..
كما يمكن القول: إن الدراما والمسلسلات السورية التي حقّقت حضوراً كبيراً ومشهوداً في العقدين الأخيرين، تغلغلت في زوايا كثيرة لم تسبقها إليها أي دراما أخرى، والفضل يعود كما نعتقد إلى أنها دخلت بكل مكوّناتها وعناصرها إلى مختبرات مبدعينا المعرفية والفنية قبل أن نراها مجسّدة، حتى لكأنها باتت دراما الألف حكاية وحكاية.