2012/07/04
باسم الحكيم - الأخبار
عقارب الزمن توقفت أول من أمس في حياة سعاد محمد (اسمها الأصلي سعاد محمد المصري)، لكن المطربة الكبيرة، اعتزلت الحياة الفنيّة قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات. ولعل آخر ظهور رسمي لها على خشبة المسرح، كان في أواخر التسعينيّات في دار الأوبرا المصريّة مع المايسترو سليم سحّاب. يومها غنّت لكوكب الشرق «هو صحيح الهوى غلاّب»، و«غنيلي شوي شوي»، وأغنيتها الشهيرة «من غير حب الدنيا دي إيه» للشاعر بيرم التونسي والملحن أحمد صدقي. أما سنوات حياتها الأخيرة فأمضتها في منزلها في القاهرة، بعيداً عن عيون الصحافة والناس، حالها حال الكثير من أهل الفن الذين اختاروا الاعتزال، مثل ليلى مراد التي غادرت الساحة الفنية قبل نحو ثلاثة عقود من رحيلها.
ورغم أن صاحبة «وحشتني» و«مظلومة يا ناس»، عانت المرض في أيّامها الأخيرة، فقد رحلت بهدوء كما كانت حال حياتها، بعيدة عن المظاهر الاحتفاليّة في مقابل حياة عائليّة صاخبة، تزوجت خلالها ثلاث مرات: الأولى بالشاعر محمد علي فتّوح الذي أسهم في اكتشافها، واستمر زواجهما 15 عاماً أنجبت خلالها 6 أولاد، بينهم الفنانة المعتزلة نهاد فتّوح. ثم ارتبطت بالمهندس المصري محمد بيبرس الذي أنجبت منه أربعة أبناء. أما زواجها الثالث فلم يدم طويلاً.
رغم عدم وجود التباس كبير في تاريخ مولدها، يرجح أن الفنانة الراحلة أبصرت النور منتصف العشرينيات في منطقة تلّة الخيّاط في العاصمة اللبنانيّة، من أم لبنانيّة وأب من أصول مصريّة. وعاشت حياتها متنقلة بين لبنان ومصر وسوريا. بدايتها الفنية كانت في بيروت حيث غنت الموشّحات، بعدما اكتشفها الملحن الراحل توفيق الباشا؛ إذ سمعها تغنّي «ليه تلاوعني» لأم كلثوم. وكان للملحن الراحل بصمة مهمّة في مسيرتها الفنيّة داخل لبنان، قبل أن تنتقل إلى سوريا ثم إلى مصر. في دمشق، غنت الموشحات في الإذاعة السوريّة مع الملحن السوري محمد محسن، ثم انتقلت إلى حلب ووصفت بأنها صاحبة أجمل صوت نسائي. ومن هناك، انتقلت إلى القاهرة حيث كانت لها مشاركتان سينمائيتان فقط في فيلمي «فتاة من فلسطين» لمحمود ذو الفقار، و«أنا وحدي» للمخرج هنري بركات. وتوقفت عن التمثيل مكتفية بالغناء في الإذاعة المصريّة، وأدت أغنيات شهيرة في أفلام مثل «الشيماء»، و«بمبة كشّر». ويتردد أن عدد أغنياتها قارب ثلاثة آلاف أغنية، تحتفظ ببعضها حتى الآن الإذاعات العربيّة وتتوزّع بين برامج إذاعية مسجّلة وأغنيات خاصة وموشحات وأدوار، أما بعضها الآخر فمفقود.
عند وصولها إلى القاهرة، وصفت سعاد محمد بالتلميذة النجيبة لـ«كوكب الشرق». ولأن صوتها وصف بالكلثومي، شاءت الراحلة أن تغنّي أغنيات أم كلثوم أكثر من أغنياتها، وسجّلت بعضاً منها في مصر، وبعضها في الإذاعة اللبنانيّة بتوزيع الملحن الراحل توفيق الباشا. وأبرز هذه الأغاني «ما احتيالي» لرائد المسرح أبو خليل القباني، و«ملا الكاسات» لمحمد عثمان. ومعروف أنّ سعاد محمد فضّلت أداء أغاني «سيدة الغناء العربي» بدل أغانيها الخاصة. ورغم ذلك اشتهرت بأغنيتيها «وحشتني» و «أوعدك». أما أغانيها الأخرى، ورغم جمالها، فلم تعطها سعاد محمد حقها مثل «مظلومة يا ناس»، و«دمعة على خد الزمن»، إضافة إلى قصيدة «إرادة الحياة» للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي التي غنتها مرتين، الأولى لحنها حليم الرومي، والثانية لحنها رياض السنباطي. ثم أغنيات أقل شهرة، من بينها «يا بخت المرتاحين»، و«ببعتلو جواب»، و«بقى عايز تنساني» و«نهاية الحكاية».
وإن كان حظّ محمد عاثراً في حياتها الخاصة، فإن الوضع لم يختلف في الوسط الفني؛ إذ لم يأخذ صوتها حقه، ولم ينل التقدير الذي يستحق. ويتفق الباحثون الموسيقيّون في أن «صوتها يتمتع بمواصفات نادرة، وأنها تستحق من الشهرة أضعاف ما نالته، وأن صوتها مطواع إلى درجة غريبة في جماله ومساحته، وهو ما يؤهّلها لخلافة عرش أم كلثوم». ثم يلومون الإعلام اللبناني والعربي، لعدم تقديره لهذا الصوت، بل تجاهله واهتمامه بأصوات تقل مستوى عنه، وبفنانين يتقنون فن الرقص والاستعراض في عالم التلفزيون والمسرح. من هنا، يُعَدّ انهماكها بحياتها العائليّة السبب الفعلي لعدم نيلها الشهرة التي تستحق، وعدم إيجادها المكانة المناسبة بين زميلاتها اللواتي تركن لبنان واتّجهن إلى القاهرة، وبنين شهرتهن فيها. وأبرز هؤلاء «الشحرورة» صباح، ونور الهدى، ونجاح سلام. ويشير الباحث الموسيقي إلياس سحاب إلى أنها «لو كانت أكثر ثقافة، لبرزت أكثر؛ لأنها من أفضل الأصوات النسائية في القرن العشرين»، مشيراً إلى أن «كلثوميتها، كانت سيفاً ذا حدين في حياتها الفنيّة؛ إذ لم تتمكن من الاستفادة من خامتها لتشق طريقها كما تستحق».
وداعاً الزمن الجميل
مع رحيل سعاد محمد، يفقد الوسط الفني صوتاً آخر من أصوات «الزمن الجميل». ولم يبق على الساحة الغنائية سوى أسماء قليلة من الفنانين الذين طبعوا عقوداً من الغناء في العالم العربي مثل وردة الجزائرية، وميادة الحناوي... وإن كانت سعاد محمد التي عاصرت ليلى مراد، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وشادية، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ قد ابتعدت طوعاً عن الأضواء قبل دخول الألفية الثالثة، فإن السبب هو رغبتها في الحفاظ على مستوى معيّن من الأغاني التي اشتهرت بها. فيما اختارت فنانات أخريات «ركوب موجة الفن الحديث» للحفاظ على حضورهن في الساحة.